هذه سردية تقابلها سردية البلادة العربية. لقد صاغتها الدعاية الصهيونية وسوقتها وروجت لها بقوة حتى آمن بها عدد كبير من الناس، بل وسمعنا، فيما مضى، رئيس دولة عربية يقترح أن تجتمع الثروة العربية والذكاء اليهودي لجعل منطقة الشرق الأوسط أكثر البلدان تقدما. لكن دعونا نتساءل عن المغالطات التي أسست لهذا المفهوم. ألا يَعْتَبِرُ الصهاينةُ أن اليهودَ شعبٌ صمد أمام الزمن وذلك حتى على المستوى البيولوجي؟ لو حللنا إذن بالمعايير العلمية هذا الذي يدافع عنه اليهود (الصهاينة) من صفاء الدم، وعدم الاختلاط بالأجناس، والحرص الشديد على ذلك لاعتبرنا من الناحية المنطقية أن اليهود لا بد وأن يكونوا أكثر الناس غباوة .فزواج الأقارب (للحفاظ على صفاء النسب) يُمارَسُ لدى اليهود بشكل كبير، ونعرف أن لذلك مخاطر كثيرة نورد منها تراكم الطفرات المتنحية: تزيد الزيجات بين الأفراد المرتبطين عائليا من احتمال أن يكون الشريكان حاملين لنفس الطفرة الجينية المتنحية. ومن ثمّ، فإن الأطفال المولودين من هذه الزيجات يكون لديهم خطر أعلى لتطوير الأمراض الوراثية، مثل مرض تاي–ساكس وهو شائع بين الأشكناز وهم يهود أوروبا الوسطى والشرقية.
تاي–ساكس هو مرض وراثي نادر وخطير يؤثر على الجهاز العصبي المركزي. وهو حالة تنكس عصبي خطير تؤدي إلى تدهور سريع في الوظائف العصبية لدى الأطفال الصغار، وعادة ما تكون النتيجة مميتة. كما يؤدي زواج الأقرباء إلى عيوب إدراكية وبدنية ذلك أن الدراسات أظهرت أن الأطفال المولودين من زيجات أقربائية قد يكون لديهم خطر أعلى للتأخر العقلي، والتشوهات الخلقية أو المشاكل الصحية المزمنة. هذه المعضلة الأولى.
أما المعضلة الثانية، فالقول إن العنصر اليهودي يتميز بذكاء خارق من دون سائر البشر يعد فكرة عنصرية تدعي أن الشعب المعني شعب مختار حيث أن الطبيعة خصته بما لم تَخُص به غيره من البشر. ولا أظن أن المثقفين اليهود النبلاء والذين ينخرطون في النضال من أجل سعادة الإنسانية قد يتفقون على ذلك. وعندما نتحدث عن المثقفين فإننا نشير إلى تلك الأسماء التي تقدمها الصهيونية دليلا على فكرة التفوق العنصري اليهودي. يتعلق الأمر بكارل ماركس وسيغموند فرويد. من الضروري أن نشير هنا إلى أن هذين المفكرين لم تكن لهما علاقة باليهودية، بل كانا يحللانها كجميع الظواهر الدينية المنغلقة والمتشددة.
وانطلاقا من مبدأ تفوق العنصر والذي يحولونه إلى إثنية عرقية صافية غير مشوبة بالاختلاط، يقوم بعض الباحثين الصهاينة بطرح فرضيات تفيد بأن العوامل الجينية قد تقوم بدور في القدرات الفكرية داخل بعض المجتمعات اليهودية. وأن اليهودي يورث الذكاء لِعِرْقِهِ الذي يعتقد أنه حافظ على صفائه من الاختلاط بالأجناس الأخرى. ومن المعلوم أن هذه النظريات مثيرة للجدل وليست مقبولة على نطاق واسع في المجتمع العلمي، لأنها قد تبسط بشكل مفرط قضايا معقدة تتعلق بالجينات والثقافة والبيئة.
المجتمع اليهودي متنوع للغاية، مع اختلافات ثقافية وجغرافية وتاريخية كبيرة. إن اختزال هذا التنوع في صفة واحدة مثل الذكاء هو أمر مقلل من شأن تعقيدات الحياة والتجربة اليهودية. هذا الأمر فيه احتقار للشخصية اليهودية إذ يعتبرها كما لو كانت مخلوقات تُرَبَّى داخل دفيئة (Sous Serre) مثل الحيوانات المختبرية. فاليهودي جزء من الشعوب التي ولد بها وتربى داخل ثقافتها مع توفره، كسائر المجموعات الثقافية، ببعض الخصائص التي تميزه عن الباقين من أبناء وطنه.
فاليهود في المغرب كانوا وما زالوا كسائر مواطنيهم المسلمين، فيهم المتفوق ومنهم الأمازيغي والعربي والكاتب والمناضل والموسيقي والحداد والصائغ والإسكافي والورع واللص والماجن والشرير والصالح والطبيب والأستاذ …هكذا هم اليوم بالمغرب، وهكذا كانوا وفق الوثائق التاريخية المروية منها والمكتوبة. بل هناك منهم، وعلى عكس ما درج الناس على قوله، مغاربة يهود يشتغلون بالفلاحة ويرتبطون بالأرض أيما ارتباط. لم نعثر في الوثائق التاريخية على فئة سميت باليهود وكانت تمتاز بذكاء خارق يتجاوز ذكاء السواد الأعظم من الناس.
وحتى لو كانت سردية الذكاء المزعوم صحيحة، كما روجت لها الدعاية الصهيونية بفضل الإمكانيات المادية والمساعدات السخية المقدمة من طرف الغرب والتي يتوصل بها الجيش والمخابرات بأصنافها، والتي تقدمها على أنها مظهر من مظاهر تفوق الذكاء اليهودي، فإن هذه الأسطورة في طريقها إلى الزوال. وأن سبب زوالها هو غباء حكامها. فأي حاكم ذكي يقوم بفعل كل شيء يسبب زوال دولته؟ ألا تعمل حكومة ودولة إسرائيل العميقة على تخريب المشروع الصهيوني من الأساس؟ كيف يعقل أن يقوم حكام بلد بخلق وسط عدائي لليهود قبل الصهاينة؟ ألا يقومون بتخريب كل رأسمال الاحتضان والدفاع الذي حضوا به من طرف الغرب؟ ألا يرون تحول الرأي العام العالمي والغربي والأمريكي على الخصوص من مناصر إلى عدو؟ أليس في هذا خطر على اليهود؟
إن كان هذا هو الذكاء فمن اللازم إعادة تعريفه.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير