لم يكن مفهوم الردة موجودا في المجتمع القبلي للقرن السابع الميلادي بشبه الجزيرة العربية. كانت التحالفات القبلية حينئذ سياسية، على قاعدة مصلحة معينة وليس على أساس إيديولوجيا، أو أفكار أو دين. كان يجب أن يجد كل طرف في تلك التحالفات ما يخدم مصلحته في الحياة العملية اليومية، وإلا فإنه لا ينخرط فيها، أو ينسحب منها إذا لم تعد تخدم مصالحه. يكفي أن يتم إعلان ذلك الانسحاب للعموم، وفق مسطرة ما يسمى “التبرؤ”.
نجد مثالا واضحا لذلك في الآية الأولى من سورة “التوبة” التي تبدأ بكلمة “براءة”، تدل على إعلان رسمي عمومي وشفهي للتبرؤ. يجب أن نفهم الآية الشهيرة “لا إكراه في الدين”، في سياقها الخاص. (لفظة “دين” هنا مشتقة من المعنى الفارسي “بيهليفي”، أي طريق وعادة، ولا يجب خلطها في هذا السياق القرآني مع المعنى المعروف للفظة “دين”) وهو المعنى الذي لم يتم نسخه إطلاقا في الآيات التالية كما يقول بذلك بعض مفسري المجتمعات التي عاشت في أزمنة لاحقة على ذلك الزمن.
لغة القرآن هي أولا لغة قبلية، تدل على نوع معين من المجتمعات، مجتمع القبيلة وقوانينها. حسب تلك القوانين، لا يجوز إكراه أي شخص على اعتناق أية إيديولوجيا. الواقع أن الاعتناق، كما نعرفه لاحقا في شكل إيمان، لم يكن واردا. الاقتناع القبلي، كان يعني دائما التزاما فعليا، أي الدخول في تحالف. كان الدين يمارس وفقا لنموذج التحالف القبلي، الذي من شأنه ضمان مصالح معينة والحفاظ عليها. إذا لم يعد ذلك قائما، يقع الخروج من التحالف. المعنى اللغوي للفظة “ارتداد”، أي انسحاب، كما نجده في القرآن، ينطبق تماما على المعركة القبلية التي يخوضها فصيل قبلي معين للانسحاب من تحالف، كان منخرطا فيه، بعدما يظهر أنه يمكن أن يخسر بسببه الكثير، وأن الرهان (الغنائم الموعودة) ليست في مستوى المخاطرة.
المعركة، هنا، ليست إيديولوجية. كل رهانها يتمحور حول ماذا يمكن أن تحقق من غنائم وأن لا تؤدي إلى خسائر في الأرواح. هكذا يصبح التضامن بين الأقارب أقوى من المصلحة العامة للمجموعات المتحالفة. لذلك يسعى الخطاب القرآني لمحاربة هذا المنطق بحث المؤمنين على البقاء في ساحة المعركة والصمود في وجه العدو. على ما يبدو بقيت هذه الدعوة دون جدوى. الظاهر أن الغنائم الوفيرة التي كانت تلوح في آفاق الغزوات هي التي كانت كفيلة بضمان استمرار القبائل المتحالفة موحدة في وجه أعدائها. لم يكن الأمر يتعلق، كما نقرأ ذلك كثيرا، بجيوش مسلمة وفق الطريقة التي نتصور بها الجيوش اليوم.
لنحاول الآن تحليل ما يسمى “حروب الردة”، التي تتحدث عنها الأسطوغرافيا الإسلامية لنهاية القرنين الثامن والتاسع الميلاديين. بالنسبة لما وقع في غرب الجزيرة العربية، كان الأمر عبارة عن خروج من التحالف القبلي، وجبت معالجته بسرعة وبالقوة، بقيادة أبي بكر الصديق. أما ما وقع في وسط الجزيرة، فلم يكن يدخل في نطاق الردة ما دام أن قبائل تلك المنطقة لم تكن داخلة أصلا في التحالف القبلي القائم في المدينة. كان الأمر عبارة عن عملية توسع وغزو. الإيديولوجيا اللاحقة للإسلام المهاجر هي التي أبدعت مفهوم الردة الدينية، من وحي المسيحية التي لطالما حرمت التخلي عن الدين.
المرتد والمهرطق لدى المسيحيين كان يتم إعدامهما، فضلا عن أولئك الذين يتم اتهامهم بالسحر أو الذين يعتبرون مهرطقين (محاكم التفتيش). نذكر، مثلا، حالة النبيل دولابار الذي جرى إعدامه سنة 1766 في مدينة أبفيل الفرنسية بتهمة الزندقة وازدراء الدين (نفس الفترة التي ظهرت فيها الوهابية في الجزيرة العربية). لم تعد للمسيحية اليوم سلطة إقامة الأحكام. نفس الشيء بالنسبة لليهودية. من جهتهم، منح بعض المنظرين غير المتدينين هذه السلطة لأنفسهم، ومنهم من نظر لها خلال القرن العشرين (النازية، الستالينية، الماوية). في المقابل تجرم معظم البلدان الإسلامية قانونيا أي خروج عن الدين، رغم أن ذلك لا يطبق في كل تلك البلدان.
هذا الإسلام، الذي يمنح لنفسه حق تجسيد السلطة الإلهية، متناقض تماما مع المجتمع الأصلي الذي نشأ فيه، والذي يفترض أنه كان أكثر حرصا على الاستناد إليه.
رشيد بن الزين