كما هو الحال مع الأدوية الصيدلانية، هناك قضايا وحالات يبدو أنها تتأثر بانتهاء الصلاحية. وتندرج قضية مدينتي سبتة ومليلية ضمن هذه الفئة. فعندما نتحدث عن ذلك في الصحافة يبدو الأمر كما لو أن القضية أصبحت مفهومة جدا، وأن الموضوع استهلك بما فيه الكفاية. لكن ما تزال الضرورة تدعو إلى استحضار المشكل، لأنه ما يزال موجودا، رغم الاجترار اللغوي في الخطابات الرسمية عندما تثير ذلك العالم الصغير.
والحال أننا نخسر الكثير من الجهد، لأنه يمكن إعادة كتابة التاريخ بينما نحن هناك، لكن الجغرافية تظل دائما عصية على التطويع بشكل إرادي.
في الواقع، توجد سبتة ومليلية فوق التراب المغربي. وهما بذلك تشكلان حالة خاصة جدا، إذ تجعلان من أوربا تبدأ من المغرب، علما أنه موجود في إفريقيا، دون أن تلتقي القارتان جغرافيا. مفارقة تاريخية واضحة، تتناقض تماما مع معنى التاريخ وعدم ثبات التاريخ. لكن أليس هذا هو الطابع المميز لمغامرات الاستعماريين، في جهات العالم الأربع، الذين أعطوا لأنفسهم حق امتلاك الوسائل لإقبار المسافات والحدود قبل اختراع الأنترنت.
في سبتة كما في مليلية، تتحول الأخبار، بسرعة، إلى صور، بل إن التاريخ يتصرف في الوقت الحاضر.
أصبحت كلتا المدينتين ثغرين إسبانيين بعد أن تنازلت عنها السلطات المغربية، الحاكمة حينئذ، (مليلية مع نهاية القرن الخامس عشر، وسبتة في القرن السادس عشر).
حاليا، يقدر عدد السكان، الذين يعيشون في كل مدينة، بحوالي 100 نسمة، ينحدرون من أصول مختلفة، كما تتنوع دياناتهم ومذاهبهم. بمعنى أنهما أشبه بمجمع تجاري لا يجمع بين مالكيه ومرتادي أية قرابة أسرية أو عرقية. لكن لا شيء يمنع هذه المكونات العرقية والمذهبية من العيش في انسجام تام. ويمكن تفسير هذا التسامح في كون أنهم بحاجة إلى بعضهم البعض. لذلك، لا يمكن أن تكون السيادة المغربية على الثغرين قابلة للتفاوض دون طرح أسئلة حول الخصوصيات التي تتميز بها المدينتان. ويندرج مقترح الملك الراحل الحسن الثاني، الذي نص على تشكيل خلية مشتركة للتفكير في حل سلمي للمدينتين، في إطار هذا الاتجاه. وإذا كان مقترح الحسن الثاني لم يتجسد على أرض الواقع، فإن ذلك يعني أن جوهر المشكل يوجد في مكان آخر. إنه يكمن، أساسا، في الوزن الاقتصادي لهذه المنطقة على كلا الجانبين، اللذين تفصلهما حدود من مخلفات الماضي.
لذلك، لا يجب إنكار التأثير الكبير للتدفق التجاري القادم من شمال المغرب، وسيكون من غير الواقعي عدم النظر إليه في حجمه الحقيقي. إنه يمثل ما لا يقل عن 40 في المائة من التجارة المهيكلة، أي الأنشطة التجارية التي تمارس في التزام تام مع مؤسسات الدولة، بدءا من التصريحات الضريبية. هذا يعني، أنه حتى عندما نتمكن من إدانة النشطين في الاقتصاد غير المهيكل، فإننا نسلمهم شهادة وجود.
اتجاه لا يمكن مقاومته بفضل المنتجات القادمة من سبتة ومليلة، والتي تحتل بشكل محزن واجهات المحلات التجارية المزدحمة، المبنية نفسها بشكل عشوائي. والأكيد أن تلك الأسواق الكبيرة المفتوحة في الهواء الطلق، كدرب غلف في مدينة الدار البيضاء أو قلب شقلب في مدينة تطوان، ما تزال أمامها أياما طويلة للاستمرار دون أن يقلق أصحابها. بينما سيستمر قلق العاملين في اقتصاد السوق المنظم والقائم ذاتيا.
ومع ذلك، فإن سبتة ومليلة قد تكونان قابلتين للاختزال لقدرتهما على إلحاق الضرر بالاقتصاد الحر الذي تحكمه معايير العمل ومدونات السلوك التي ينص عليها القانون.
من حيث المبدأ، يمكن القول إن سبتة ومليلية من مخلفات الاستعمار. ولا يمكن أن يكون لهما وضع آخر غير ما هما عليه، ووضعهما التجاري فاسد ولا إنساني على حد السواء. للوقوف على حقيقة الأمر، يكفي حضور الاستعراض الصباحي لأفواج طويلة من النساء اللواتي يحملن كميات كبيرة من السلع المهربة على ظهورهن، وهن يحاولن اجتياز المعبر الضيق الذي يراقبه الإسبان. يطلق على أولئك النسوة المغلوبات على أمرهن “النساء-البغال”، اللواتي غالبا ما تذهب إحداهن ضحية التسابق من أجل توفير لقمة العيش اليومي، وتصبح صور الكارثة، التي تعود إلى عصر آخر، على قنوات الأخبار والصفحات الأولى من الجرائد العالمية. مما قد يدفع، في بعض الأحيان، إلى إنكار مغربيتهما التي ميزتهما على مر العصور. على كل، نحن بعيدون عن مغرب يلتزم خطابا حادا وواضحا، يطالب بعودة سبتة ومليلية إلى حظيرة الوطن. ما تزال الضرورة تدعو إلى أن تكون القناعة حاضرة في الذهن كما في الغريزة.
يوسف شميرو
مدير النشر