اهتزت العاصمة الفرنسية باريس، صباح يوم الأربعاء السابع من يناير الماضي، على وقع الهجوم الذي استهدف صحيفة «شارلي إيبدو» الساخرة، من طرف شابين فرنسيين من أصول جزائرية، وما تلاه من هجوم على متجر يهودي. وجاءت حصيلة هذا الاعتداء ليس فقط ثقيلة من حيث عدد الضحايا، بل مستفزة ومفزعة من حيث التداعيات والنتائج المترتبة عليه. لا يتعلق الأمر فقط باستعداد فرنسي لإرسال لجنة للاستفادة من «الخبرة» البريطانية في مجال مكافحة الإرهاب داخليا عبر وضع المشتبه فيهم، من المسلمين طبعا، تحت المراقبة، وهو ما يتنافى مع الحرية الفردية، خاصة إذا طبق هذا القانون على حوالي خمسة ملايين مسلم بفرنسا. ولا يعني كذلك مجرد مسيرات للتنديد، ضمت حوالي 3.7 مليون مشارك و50 من زعماء العالم، يتوسطهم، في مشهد سوريالي، بنيامين نتانياهو. فقد انطلق مسلسل تنسيق أوربي أمريكي، وجرى، وسيجري عقد قمم ولقاءات لوضع خطط واستراتيجيات لمكافحة الإرهاب، ولم لا استدعاء قانون «باتريوت آكت» من جديد، في زمن تزايد المد العنصري والانتقام والإسلاموفوبيا.
صدق من قال إن حادث «شارلي إيبدو» كان له ما قبله وسيكون له ما بعده. فهل يتعلق الأمر فعلا بأمر دبر بليل للإيقاع بالمسلمين؟ أم هي لحظة من لحظات الصدام الممتدة في الزمن الطويل بين منطق عقلاني مؤسس وفاعل في الغرب ومنطق وجداني منفعل في الشرق منذ ما بعد سنة 1492م؟ لا يتعلق الأمر هنا بشرق كونفشيوس والميجي والساموراي ودوستويفسكي والمهاتما غاندي وماو تسي تونغ، بل بشرق أخطأ موعده مع التاريخ منذ سقوط غرناطة. شرق أضاع البوصلة في زمن الالتباس لديه بين الإسلام كدين والإسلام كتاريخ، فصار مكبلا بثقل التراث واجتهاد البشر، وأصبحت آراء وتأويلات الأشعري والغزالي وابن تيمية وابن عبد الوهاب وغيرهم مرجعا ملزما وحجابا مانعا عن أي مرور مباشر للقرآن والسنة.
تماهى هذا الالتباس وتعقد أكثر حين تراكب مع تداخل بين الإسلام كدين والإسلام كحكم وسلطة (خلافة، إمامة، مهدوية، إمارة…). حصل هذا في زمن كان فيه الغرب يؤسس لنظمه على أساس التراكم المبدع، في تفاعل منتج بين الإنسان وبيئته وسياق إنتاج فكره، فحلم أفلاطون بمدينة فاضلة يسوسها الحكماء (الفلاسفة)، وانتبه بعده أرسطو إلى واقع المدن الدول وما يقتضيه نظام حكمها، وظهر توما الأكويني مجددا في الفكر اللاهوتي المسيحي، قبل أن يعلن ماكيافيلي مبدأ البراغماتية في الحكم، وتبدأ عملية شد الحبل لإزاحة الكهنوت من كرسي حكم البشر باسم الله، وجاءت أعمال توماس هوبز وجون لوك وجون جاك روسو لتنظم شكل الحكم على نمط من التعاقد، فيما اتجه مونتسكيو إلى وضع روح للقوانين. ترافق ذلك مع نهضة متكاملة، علمية، وإن بتضحيات (كاليلي)، واقتصادية وفكرية، وكانت النتيجة، أن أبدع الغرب حداثته وأنجز ثورته وأعلن مبادئ لحقوق البشر، بعد أن قطع مع مركزية الكنيسة في حياته، باسم لله، لفائدة مركزية الفرد والعقل والعلم.في ظل هذا المخاض العسير، وبينما كان الشرق يغط في سبات خلافة آل عثمان، انتقلت نخبة من هذا الغرب إلى عالم أسموه جديدا، وهو في الواقع غرب الغرب وسيده، خرج من رحمه، بعد فترة في حضن الاستعمار البريطاني استمرت من 1604 إلى 1776، ليؤسس الولايات المتحدة الأمريكية، التي مرت من فترة بناء الذات اقتصاديا ومؤسساتيا والتوسع مجاليا والقضاء على نزوعات الانفصال داخليا، قبل أن تخرج إلى العالمية سنة 1898، واضعة العالم بين فكي كماشة بسيطرتها على كوبا وبورتوريكو من جهة الغرب والفيليبين وكوام من جهة الشرق في نفس السنة. ثم استغلت الحرب العالمية الأولى لتلقن العالم مبادئ رئيسها ولسن في تنظيم «المجتمع الدولي»، قبل أن تعود في الحرب العالمية الثانية لتدخل جزءا مهما من اقتصاد العالم بل وسياسته تحت عباءتها في إطار مخطط مارشال. ثم تصارع في زمن الحرب الباردة، وتنشر أساطيلها على قطعة الشطرنج العالمية، حتى إذا سقط جدار برلين أعلنت نظامها العالمي الجديد.
في زمن هذه الحرب الباردة تم نحت مفهوم الإرهاب، وجرى التحالف مع طائفة من الشرق آلت على نفسها جهاد العدو الشيوعي الكافر في أفغانستان، وانتهى الأمر بصورة كاريكاتورية ظهر فيها المجهادون يجهادون في المجهادين. وتحول حليف الأمس إلى العدو رقم واحد عالميا بعد أحداث 11 من شتنبر 2001.
تقول جماعة من أهل الشرق إن الأمر يتعلق بصراع الحضارات، فيكون الجواب إن الصراع يفترض الندية والمواجهة والفعل المتبادل، لا أن يكون الغرب فاعلا، ومتحالفا مع جزء مهم من الشرق، يمول أدوات تقوم برد الفعل المشرعن لإعادة إنتاج السيطرة والإذلال. ويجري الحديث عن مؤامرة، فيكون الجواب لو كانت الذات متمنعة منتجة مجددة مبدعة لما جرى استدراجها وتوظيفها في هذه المؤامرة المفترضة.
على الشرق أن يبدع حداثته، ويعيد الاعتبار لإنسانه، بإخراجه من قبضة كهنوت مستبد باسم الدين، عبر انخراط علمائه ومفكريه في اجتهاد جدي وجريء، مؤطر بهاجس الأنسنة، يجعل الفرد والعقل والعلم أوائل على سلم أولوياته، ويطرد الخرافة والجهل من إعلامه ومدارسه، إن أراد فعلا أن تقوم له قائمة من جديد. لا أن يعلق فشله وخيبته على مشجب الغرب، مقتمصا دور الضحية، موفرا للآخر الفزاعة التي تسمح له بإذلال الذات وإعادة السيطرة عليها.
الطيب بياض