يدور النقاش حول مستقبل الصهيونية ويكشف عن انقسامات عميقة وتساؤل جوهري: ماذا تعني الصهيونية في القرن الحادي والعشرين؟ وهل ما زال بإمكانها أن توحّد مجتمعًا إسرائيليًا يعاني من أزمة؟ تظهر في هذا السياق رؤيتان: إحداهما للصهيونية العلمانية والتي تنطلق من قراءة تاريخية وسياسية للحركة، والأخرى للصهيونية الدينية والتي ترى في الصهيونية مسارًا روحيًا ومشيحانيًا. لكن خلف هاتين الرؤيتين المتباعدتين، تظلّ مسألة أساسية مطروحة: هل لا تزال الصهيونية قادرة على أن تكون مشروعًا جماعيًا في ظل مجتمع ممزق، يشهد انقسامات هوياتية واجتماعية وإيديولوجية حادة؟
في صيغتها العلمانية، تُعرَّف الصهيونية كاستجابة تاريخية وسياسية للعداء الأوروبي لليهود، وكمشروع يهدف إلى إنشاء دولة يهودية تضع حدًا لانعدام الأمن الوجودي لليهود. وقد رافق هذا المشروع بعد ثقافي عميق، تمثّل في إحياء اللغة العبرية لا بوصفها أداة تواصل فحسب، بل كمحرّك هوياتي أيضًا. كان الهدف هو بناء ذات يهودية جديدة، مستقلة ومتحرّرة من أثقال المنفى. لكن هذا التصور يفترض وجود سردية جماعية مشتركة، أي سردية وطن موحِّد. غير أن هذه السردية أصبحت هشًّة اليوم. فالانقسامات داخل المجتمع الإسرائيلي، بين العلمانيين والمتدينين، بين يهود الشتات الشرقي والغربي، بين المستوطنين ومعارضيهم، بين اليهود والفلسطينيين، بين الأغنياء والفقراء، تهدّد بفكّ أوصال المجتمع وتنسف فكرة الشعب الواحد الموحد حول مصير مشترك.
في المقابل، تقدّم القراءة الدينية للصهيونية فهمًا آخر: فهي ليست مشروعًا سياسيًا فحسب، بل لحظة من لحظات التاريخ المقدّس، وعودة إلى الأرض الموعودة التي بشّرت بها النصوص المؤسسة. الصهيونية الدينية تُفهم باعتبارها خطوة في مسار الخلاص الجماعي، وتحمل بعدًا لاهوتيًا يمنحها شرعية ربانية. الدولة الإسرائيلية، وفق هذه الرؤية، ليست مجرّد كيان سياسي، بل أداة إلهية لحمل رسالة أخلاقية إلى البشرية .غير أن هذه المقاربة تُقصي من لا يشاركها الإيمان، وتؤدي إلى تديين السياسة وتحويلها إلى عقيدة. وهنا يكمن الخطر: الصهيونية تتحول إلى دين للدولة، مما يزيد التوترات ويعمّق الانقسامات الداخلية.
بين هذين القطبين، التاريخي السياسي والروحي الديني، تتبلور أزمة هوية عميقة. فالصهيونية، بصيغتها الأصلية كمشروع يزعم بلوغ التحرر القومي، لم تعد توحّد المجتمع. بل تُستخدم أداة في يد التيارات الدينية القومية المتطرفة، أو تُرفض من قبل شباب علماني يبحث عن معنى آخر أو ينفتح على هويات بديلة .المشروع المؤسس يتلاشى أمام مجتمع متصدّع تتنازع فيه الانتماءات المتباينة.
وهذا ما يطرح سؤالًا جديدًا: هل ينبغي تحويل الصهيونية إلى دين مدني أو روحي لكي تستعيد قدرتها على توحيد المجتمع؟ يرى أولئك المهووسون بدوام إسرائيل، أن خطر ذلك يكمن في الانزلاق نحو عقيدة إقصائية، لكن إذا أرادت الصهيونية أن تبقى قوة تعبئة جماعية، فعليها أن تنتج خيالًا جديدًا، ورؤية للعيش المشترك تتجاوز الانقسامات. ولا يمكن أن يكون الحل في العودة النوسطالجية إلى المثُل الأولى، ولا في الاندفاع نحو المشيحانية الدينية. بل المطلوب هو إعادة تعريف المشروع: لا فقط كدفاع عن أرض أو سيادة، بل كمحاولة لبناء نموذج مجتمعي عادل، متساوٍ، تعددي، يرى في التنوع ثروة لا تهديدًا.
فكيف يمكن الحفاظ على التماسك الوطني في هذا السياق؟ وأي مشروع يمكنه أن يوحّد مجتمعًا بهذا القدر من التفاوت؟ الجواب، إن وُجد، يكمن في صهيونية جديدة تُبنى على قيم أخلاقية كونية، قادرة على الجمع بين الذاكرة التاريخية لما يسمى بالشعب اليهودي وبين متطلبات العدالة وحقوق الإنسان واحترام الآخر. ويتطلب ذلك تجاوز منطق الاستثناء، والتركيز بدلًا من ذلك على قيم التعايش والاحترام المتبادل. بعبارة أخرى: الانتقال من صهيونية دفاعية إلى صهيونية أخلاقية، لا يشغلها هاجس البقاء فقط، بل تسعى لما يمكن أن تقدمه للعالم. لكن هذا التحول ليس مضمونًا. فهو يتطلب إعادة قراءة للتاريخ، وتفكيكًا للإيديولوجيات، وقدرة على تصور مستقبل مشترك لشعوب لم تعد تتقاسم المراجع ولا التطلعات نفسها. التحدي كبير، لكن إذا لم تنجح الصهيونية في تجديد نفسها، فإنها مهددة بأن تتحول إلى منظومة مغلقة، إقصائية، أو قومية دينية متشددة، فتفقد ما كان في زمن ما مصدر قوتها: كونها مشروع تحرر. وسوف تضع وجود إسرائيل ككيان في دائرة الخطر .وهذا هو ما يحدث الآن. فالحرب على غزة تؤجل فقط هذا النقاش الذي بإمكانه أن يتحول بسرعة إلى صراع مسلح.
وهذا ما يؤكد عليه المفكر والمؤرخ الإسرائيلي أيلان بابي (Ilan Papé) صاحب كتاب التطهير العرقي بفلسطين. ذلك أن المشروع الصهيوني استنفذ مهمته بقيام دولة إسرائيل وتَمَكُّنها من قوة سلاح لا يضاهى بالشرق الأوسط، وهذه إيديولوجية لا يمكن أن تجعل جماهير اليهود عبر العالم ينخرطون فيها.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير