يوم 6 دجنبر ،2022 كان من اللازم أن أسافر لغرض الشغل رغم أن جل المغاربة كانوا معلقين إلى شاشات التلفزيون يتابعون مقابلة كرة القدم بين المنتخب المغربي ونظيره الإسباني برسم ثمن نهاية كأس العالم التي أقيمت بقطر .سافرت إلى باريس عبر القطار انطلاقا من ميلانو .وبمجرد ما توقفنا بأول مدينة فرنسية، صعد شباب يتكلمون الفرنسية بدون لكنة، وسألوني عن نتيجة المقابلة؛ لم يكن بمستطاعي مشاهدة المقابلة داخل القطار، ولم أكن أتوفر على صبيب أنترنيت عال لأقوم بذلك على الموبايل. تأسفت لذلك. مر ما يقارب الساعة، عندها وصلني خبر على هاتفي النقال يفيد بأن المغاربة انتصروا. في ذلك الوقت بالذات، بدأت أسمع من حولي وبكل اللغات الأوربية حديثا عن المغرب .فهمت ما قيل باللغة الإيطالية وما قيل بالفرنسية، لكني اكتفيت بسماع اسم المغرب في اللغات الأخرى وأحاديث تدور عن مراكش والدار البيضاء وبعض المدن المغربية المختلفة .توقعت أنه كما سمعت في اللغتين اللتين أفهمهما أن الحديث إيجابي.
كنت مسافرا لباريس لحضور أشغال ملتقى مغلق نظم بمبادرة من الشاعر والمفكر أدونيس حول العرب وإشكالية الأنا والآخر .ما إن وصلت الفندق وأدليت ببطاقة هويتي حتى بادرتني السيدة التي استقبلتني بـ:«هنيئا للفوز الكبير». شكرتها من كل قلبي إذ لم تكن مضطرة للترحيب بي بهذه الطريقة. وأنا أتمم تفاصيل الإقامة، بدأ المفكرون العرب يصلون تباعا وكلهم يتحدثون عن معجزة المنتخب المغربي. استمر النقاش في المطعم وبهو الفندق وفي كثير من الأحيان على هامش المؤتمر. كان بيننا باحثة وباحث فلسطينيان، من داخل الحزام الأخضر، وصلا في اليوم الموالي للمقابلة .كانت معهما معلومات عن ردة فعل الجماهير الفلسطينية، كان وكأن هذا المنتخب منتخب الجميع وأن الانتصار انتصار الجميع…
كان من المفروض أن ينتهي المؤتمر يوم السبت بعد الظهر، لكن إلحاح الباحثين جعل المنظمين يشتغلون بكثافة لإنهائه يوم بعد جلسات الصباح حتى يتسنى للجميع مشاهدة مقابلة المنتخب المغربي ضد المنتخب البرتغالي. تدبر كل واحد أمر المشاهدة، لكن عند التقائنا في المساء بالمطعم، كان الكل يتبادل التهاني، ويتعجب من هذه القوى الجبارة التي جعلت المغرب يتجاوز أعتى المنتخبات العالمية. تعددت الآراء والتحليلات، وقدم كل واحد رأيا خاصا به، لكن الجميع كان يتجه نحو غياب عقدة النقص لدى الجيل الجديد بالنسبة للعالم القوي، الغرب هنا.
عدت من باريس إلى ميلانو، وفي القطار جلس إلى جانبي فرنسي تجاوز عقده الثامن .سألني هل أنا ذاهب إلى إيطاليا للسياحة أو العمل أجبته: «لا، أنا أقطن بإيطاليا». لم يسألن عن أصلي ولا عن ديني، بل صرنا نتجاذب أطراف الحديث، فهمت من خلال ما تبادلناه من معلومات أنه مهندس معماري متقاعد. ثم ما لبث ونحن نتحدث في السياسة أن عبر عن امتعاضه من قرار الرئيس ماكرون الالتحاق بالمنتخب الفرنسي بقطر لتلميع صورته .وأردف لا يعني هذا أنني لا أريد لفرنسا أن تفوز على المغرب، أبدا أريد هذا الفوز لأننا، يعني الفرنسيين، لم نفز بأي شيء منذ زمن بعيد لا في السياسة ولا في الاقتصاد ولا في الثقافة، إننا نتدهور. ثم سألني وأنتم في إيطاليا، ما هي الحالة؟ أجبته أنا لست إيطاليا أنا مغربي. عندها سألني عن سر تألق المنتخب المغربي .كان ينطلق من مسلمة لا يمكنه التخلص منها، مفادها أن المغرب بلد غير نامي أو هو في طريق النمو، ولذلك لا يمكنه أن يحقق كل ما حققه.
فهمت أنه من الصعب أن أشرح له كل شيء وخصوصا شيء ما لا يمكن أن يستوعبه فكره الديكارتي. هذا الشيء هو ما سماه المدرب المغربي “النية“ و“رضاة الوالدين“. هكذا سمع من أمه، وهكذا ردد للشباب الذين يشبهونه ويؤمنون بالشيء نفسه .لا يجيدون العربية لكنهم يرددون «يحم الوالدين»، يعني يرحم الوالدين، يقولون “مشالاَّ” ويعنون بها ما شاءا لله . إضافة إلى بعض الكلمات جمعوها خلال زياراتهم المتكررة خلال العطلة الصيفية. يعتبرون المغرب جنة، ليس المغرب كما نراه نحن الذين نعيش فيه، بل المغرب كما ترويه لهم أمهاتهم .مغرب الحلم، مغرب الأجداد والأسلاف.
أجبت الفرنسي محاوري، أنا ليس لدي جواب، ولكنني سمعت أحد اللاعبين يقول عندما سألوه لماذا لم يلعب للبلد الذي ولد فيه، قال: «أريد أن ألعب لبلد الأجداد» .وأضفت: «وهذا النوع من الإحساس لا يمكنك أن تعلمه في المدرسة، إنه يُلَقَّنُ في فترة الرضاعة عندما تعطي الأم الثدي لابنها وترفقه بأَنَّات وترنيمات عن الغربة ولوعة الفراق. لا يعلِّمه الأب الذي يقول إنه يشتغل لضمان لقمة العيش، تعلمه الأم تغنيه لابنها وهو ما زال جنينا .يأتي إلى العالم محملا بشيء مبهم، لا يعرف ما هو تترجمه له الأم».
سألني ألهذا كانت الأمهات في الملعب؟ قلت: «بلى، ولْتَعْلَمْ يا سيدي أن الأولاد لا يلعبون الكرة إلا لشيئين اثنين: حب الأم وحب الوطن الأم. وهذا هو الإرضاء، إرضاء الوالدة هو الفوز».
قال: «فهمت لماذا رقص ذاك اللاعب مع أمه فوق العشب وتحت أنظار العالم».
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير