لا يتعلق الأمر برائعة حنا مينه، التي قدمها لقرائه في شكل عمل روائي مميز يحمل هذا العنوان، ويكثف عناصر واقع فاقع القتامة لمسار حياة موسوم بالظلم والقسوة والحرمان. ولا حتى تفاعلا مع أعمال إبداعية، سينمائيا وتلفزيونيا، حملت نفس العنوان، احتراما لنص رواية اختارت أن تقتبس منه مشاهد أعمالها المصورة. بل نستحضر بقايا صور حقيقية، عاكسة لواقع، فاضحة لمستور، وكاشفة لقناع، مضيئة بمشاهدها الحزينة عتمة تاريخ أبت الصورة إلا أن تفضح وجهه الزائف.
عرت الصورة بشاعة بلاد العام سام في حربها على الفيتنام، ومكنت العالم من اكتشاف فظاعات ما ارتكبته طائرتها وجنودها في حق شعب مقاوم للغزو، في زمن تسلم الولايات المتحدة لزمام المبادرة بهذا البلاد من الفرنسيين. ووشمت صورة الطفلة كيم سنة 1973 ذاكرة العالم، وزادت من متاعب الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، صاحب فضيحة ووترغيت، الذي لم يتوان في التشكيك في حقيقة صورة طفلة فيتنامية، أحرقت جسدها قنابل النابالم التي أسقطاتها طائرات بلاده على الأبرياء.
بعد عشرين سنة على نشر هذه الصورة، التي حازت جائزة بوليتزر، كان العالم على موعد مع صورة ثانية استحق صاحبها نفس الجائزة، لطفلة سودانية تحتضر جوعا تحت شمس حارقة، وأمام أعين نسر مفترس، يتأهب للانقضاض عليها، وعدسة صحفي محترف مهنيا، بارد إنسانيا، انتحر لاحقا، بعد صحوة ضمير.
ارتبط اندلاع الانتفاضة الثانية في فلسطين، مع مطلع الألفية الثالثة، في ذاكرة من عايشوا أحداثها، بصورة طفل فلسطيني، يدعى محمد الدرة، لم يمنعه الاحتماء بوالده من رصاص جنود الاحتلال الإسرائيلي، فصار رمزا لهذه الانتفاضة وأيقونتها.
لم تتوقف الصور الحزينة، بل والمرعبة أحيانا، خاصة مع “تفنن” قنوات في إيذاء مشاهديها بتكرارها، حتى كاد الأمر أن يصير مألوفا ونمطيا. إلى أن لاحت صورة الطفل السوري إيلان، وقد قذفته أمواج البحر المتوسط على شاطئه الشرقي. فصارت موضوعا ليس فقط للتداول الإعلامي، وحديث شبكات التواصل الاجتماعي، بل أعادت طرح موضوع قيمة الإنسان للمناقشة.
تختزل صورة الطفل إيلان مأساة الإنسان في حيز جغرافي معين، كما اختزلته باقي الصور المشار إليها سابقا، وغيرها في مناطق متفرقة من العالم، بشكل واقعي، قد يتقاطع في إحدى مستوياته مع ما عبر عنه حنا مينه إبداعيا في روايته.
بين الروائي والطفل الغريق رابط الانتماء إلى وطن اسمه سوريا، أخطأ موعده، كغيره من البلاد العربية، مع الحرية والديمقراطية، منذ بداية استقلاله عن المستعمر. فطالته عدوى الحراك العربي، التي سرعان ما انتقلت من السلمي إلى المسلح العنيف. فجار عليه الجوار، الذي سمح بتكالب أقوام تمتح من مرجعية داحس والغبراء في زمن القنبلة الذرية وغزو الفضاء. فهام أبنائه على وجوههم بحثا عن مراكز للإيواء، ثم بقدرة قادر جرى الاندفاع نحو الفردوس الأوربي المفقود. وتلاحقت الصور، صحفي يبكي مأساتهم على الهواء مباشرة، وزميلة له تشبعهم ركلا، سجناء أقفاص في المجر، معتصمون في محطات القطارات وسككها، سياج حديدي، أسلاك شائكة، زعماء أوربيون يتناوبون على عرض وجهات نظرهم في الموضوع أمام وسائل الإعلام…
ذهب الرئيس الفرنسي في هذا الشأن إلى حث تركيا على احتضان اللاجئين السوريين، عوض لفظهم إلى أوربا. وهو يعي دون شك دور هذا البلد في تعقيدات المشكل السوري، خاصة بعد أن تحولت في سياستها الخارجية من شعار صفر مشاكل إلى بلد مطوق بالمتاعب. كما لو أن التاريخ يعيد نفسه بين أتراك الأمس واليوم، فسوء تقدير سليمان القانوني جعله يوقع سنة 1535 معاهدة مع فرنسا، اعتبرت مؤسسة لنظام الامتيازات القنصلية والقضائية بالمشرق. واللافت في هذه المعاهدة، التي أسهمت في هد كيان آل عثمان، أنها وُقعت في أوج قوة وعظمة الدولة العثمانية، في الوقت الذي كانت فيه فرنسا صاغرة أمام شارلكان، وملكها فرنسوا الأول أسيرا في إحدى قلاعه بإسبانيا. ثم عاد سوء التقدير إلى دفع الأتراك لتبني حسابات غير مدروسة جيدا في المنطقة، لابد أن تكون لها تداعيات، في الداخل قبل الخارج. فبعد أن ألِف المشاهد العربي صور المسلسلات التركية، التي قد تكون أسهمت في إغناء الرصيد السياحي للبلد، صار يتابع صور التفجيرات والاغتيالات، التي ستمس ولاشك هذا الرصيد.
فضحت صور الطفلتين الفيليبينية والسودانية، والطفلين الفلسطيني والسوري، زيف الشعارات التي تتغنى بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، التي رفعها عالم سمى نفسه حرا. مثلما فضحت صور اللاجئين السوريين حقيقة قيمة الإنسان في زمن العولمة؛ فهو إما منبوذ، وبشكل عنصري، من طرف دول تخشى على اقتصادها وديموغرافيتها أو حتى على “أمنها الروحي”، أو مرحب به، براغماتيا، من طرف أرباب المعامل، في دولة لا تجد حرجا في الاستخفاف بإنسان آخر، يقتسم معها نفس القارة جنوبا. وبين الصورتين تضيع صور أخرى عن تغيير الخريطة الديموغرافية للبلد الأصلي، وعن الكرم العربي السخي في جلب السلاح، المنتفي لحظة الحاجة إلى احتضان من أفزعهم هذا السلاح.
الطيب بياض
مستشار علمي بهيئة التحرير
حظ العرب أن يكتب تاريخهم بالدماء
مع ان بلدهم كان ملقى الحضارات منذ الأزل ومحجا دائما أهل أهل العديد الأمصار
كان هوس العرب لا يتجاوز جمع المفردات
و مواضيعهم بيداء وحرب و فرس ودماء
وكانت الحضارات المجاورة تعيش رقيا فكريا ومعرفيا لا يزال يدرس في المعاهد والجامعات
أين كان العرب عصرئد؟
بنشدون الملحمات ويتغنون بالمقدمات ويغازلون عيون المهى ويمدحوم اقداح الخمر ويفتخرون بالفرس المكر المفر…
العرب عقولهم لا تفقه وعيونهم لا تبصر الا حدود الظل .
سيظل ابناؤنا يقتلون وبناتنا يغتصبون وشبابنا يباعون بثمن بخس. وستظل حرماتنا تنتهك دائما مابرحت ارادتنا صاغرة .
ليس العيب في العم سام ولا في الحضارات الغربية التي احتلت بلادنا منذ الأزل وأذلت أحرارنا وشردت ايتامنا واستنزفت خيراتنا واستلبت فكرنا
العيب في جبننا وضعفنا وعقول العصافير التي تحركنا.
موضوع يثير فينا حسرة على امجاد سادت زمنا ثم ذهبت ولم تعد.