تعود هذه العبارة إلى زمن بعيد. فلقد رددها المستشرقون والمعمرون من أوروبا .ومفهوم العربي، في حد ذاته، تطور مع الزمن وأخذ أشكالا عدة ومحتويات مختلفة .فبعد أن كان العربي والمسلم، في المخيلة الغربية، رمزا للحضارة والثقافة وفن العيش الرفيع، انقلب إلى نوع من الهمج الذي أسس لتاريخ مليء بالدموية والعنف والشهوانية الحيوانية. لم يكن هناك شيء اسمه العربي عند الأوروبيين، وإنما كانوا يسمون الشعوب التي تسكن في جزء من آسيا الوسطى وشمال إفريقيا وجزيرة العرب بـ“المحمديين”
(Les mahométans) .سميت العرب في التوراة بـ“الهاجاريين“ أي أبناء هاجر زوجة إبراهيم، كما سموا بـ“الإسماعيليين“ أي أبناء إسماعيل بن إبراهيم، قبل تسميتهم بـ“المحمديين“. وهذا النسب الأخير هو الذي عممه الفكر الغربي على جميع الشعوب التي دانت بالإسلام وخصوصا تلك التي تعيش بالقرب من أوروبا ومنها شمال إفريقيا. وكنا نجد المفكرين والفلاسفة يستعملون الاسم نفسه دون أخذ المسافة الكافية بينهم وبين المحتوى الإيديولوجي للمفهوم. لكن هناك بعض الفروقات في التسمية، فالمغاربة الذين كانوا يحكمون الأندلس كانت لهم تسمية خاصة مستوحاة من الاسم القديم للمغرب وهو موريتانيا. كان المغربي يسمى “المورو“ أي المنتسب لموريتانيا.
وإذا كان الحنق الديني متواجدا في التداول اليومي للإنسان الأوروبي – المسيحي فإنه كان ممزوجا أيضا بنوع من الإعجاب بهذا المورو الذي بنى حضارة تثير الإعجاب والتي أخذ منها الأوروبي بعض النماذج ليطورها وليأقلمها مع نمط حياته في الشمال ومع معتقداته المسيحية .سوف يزداد هذا الإعجاب عندما غزا نابليون مصر، واكتشف علماء الآثار الذين كانوا يرافقونه عظمة حضارة وتاريخ البلد.
لكن هذا الإعجاب لم تكن تقتسمه الكنيسة التي حافظت على تصوراتها التي بنتها إبان الحروب الصليبية. كانت الكنيسة، وحتى تحفز المؤمنين المسيحيين على الانخراط في الحرب والتضحية بأنفسهم، تصور المحمديين كجحافل من الكافرين الهمج الذين سطوا على الأماكن المقدسة التي كان يقيم بها المسيح.
مع بداية الحقبة الاستعمارية، كان لا بد لأوروبا أن تؤسس لسردية جديدة حول سكان المناطق التي سوف تسمى لاحقا عربي إذ لا يمكن أن نستعمر شعوبا ونستعبدها ونعترف لها في الوقت نفسه بالذكاء والحضارة والعلم والابتكار. فعاد الأوربيون أولا إلى كل ما كتبه الآباء المسيحيون عن النبي محمد وعن أتباعه المحمديون. وهذه الأوصاف سوف نجدها عند المستشرقين وخصوصا عند الأنثربولوجيين والإثنولوجيين الاستعماريين.
ولعل أفظع ما تفتقت عنه قريحة العلم الاستعماري (نقول هذا تجاوزا إذ لا يوجد علم استعماري بل فقط إيديولوجية)، هو ما قدمه الطب العقلي الفرنسي بالجزائر باسم المدرسة الجزائرية في الطب العقلي. لقد نشر أطباء هذه المدرسة أبحاثا في موضوع الاختلاف البيولوجي بين الإنسان العربي (الجزائري)، وبالطبع سائر المُسْتعمَرين من العرب كما كانوا يسمونهم، وبين الإنسان الأوروبي الأبيض. قَدَّرَ هؤلاء الأطباء أن الجزائري، بعد تحاليل وأبحاث، ليست له قشرة دماغية. أي أنه يتصرف كالفقريات الدنيا تحت إمرة نشاط الدماغ البيني. بكلمة إنه كالحيوان تسيطر عليه الغرائز والعواطف. ويجب أن نفهم أن هذا الشعب يمكن أن يتصرف كالحيوانات دون أي منطق أو أي سبب. حتى ولو كانت هذه الفكرة متطرفة، فإن العديد من المفكرين والسياسيين والناس العاديين في الغرب يؤمنون بها كليا أو جزئيا.
الأدهى من هذا هو أن الآلة الاستعمارية ركزت هذه الفكرة في أذهان العرب حتى صاروا يعتقدون بها. على الأقل في الجزء المتعلق بعدم قدرتهم على إنتاج معرفة الغرب وإبداع الغرب. وحتى الذين يعتقدون أنهم متمردون على هذه الفكرة، فإنهم يسارعون إلى الحديث عن أسماء عربية وصلت إلى العالمية بفضل اكتشاف ما أو إبداع ما… ولعل أهم شيء يمكن أن نستدل به هو ما يروج عن أن العقيد معمر القذافي المدافع عن العروبة كان يؤكد أن أسماء عديدة مثل شكسبير وبيكاسو وغيرهم من أصل عربي. بمعنى آخر أنه ليس عند بعض العرب مشكلة في أن يكون الذكاء والإبداع مرتبطين بالعِرْقِ. وهناك كتب ونظريات أنتجها ودافع عنها أشخاص ذوي نزوعات عروبية تذهب في الاتجاه نفسه.
هذه السردية، التي أنتجها الغرب الاستعماري لغرض محدد في الزمان، أصبح هو نفسه يعتقد في صحتها. والدليل هو تعامل السياسيين الغربيين مع نظرائهم العرب بالعجرفة والتعالي اللذين نشاهدهما مباشرة على الشاشات. وأكثرها فضاضة تلك التي يتعامل بها زعماء الكيان الصهيوني مع كل ما هو عربي. لكن المشكلة التي أصبحنا نشاهدها اليوم هو أن الإيمان بهذه الفكرة، أي بلادة العربي، أصبحت تشكل عائقا إبستمولوجيا عند الغربي، بل وأصبحت تشوش على فهمه للأمور السياسية والاستراتيجية والدبلوماسية. والدليل هو غرق إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في وحل غزة. ولقد لاحظنا ذلك الفشل في فهم العقلية العربية انطلاقا من ما يسمى بالتعتيم الإعلامي الذي كان الإعلام الغربي وببلادة واضحة يحاول أن يوهم الميليشيات الفلسطينية واللبنانية به وجرهم إلى فخاخ حربية. لقد سقط الغرب في فخ السردية التي أنشأها عن العربي وبلادة العربي.
هكذا، يبدو أن البلادة تحولت إلى الجهة المقابلة.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير