ظلت السياسة، إلى بداية القرن العشرين، شأنا يهم النخبة بالأساس، أي أقلية تُجري الخيارات التي تهم المجموع، سواء أكانت هذه النخبة حاملة للسيف أو حاملة للقلم، بأسماء متعددة في مختلف الثقافات والحضارات (الصفوة، أصحاب الرأي والمشورة، الأسنان من القوم، أهل الحل والعقد، النَّحام، السراي … إلخ).
ظل الأمر كذلك إلى منتصف القرن التاسع عشر في أوربا مع الثورة الصناعية وتفشي الفكر الاشتراكي والدعوة إلى توسيع قاعدة الاقتراع، واستوى الأمر مع بداية القرن العشرين حيث بدأ الميزان يميل لأول مرة في تاريخ البشرية إلى الجماهير. استرعى الأمر اهتمام طبيب ذي ثقافة واسعة، هو غوستاف لوبون، كان له إلمام بالحضارة الإسلامية، خص ظاهرة الجماهير بعمل يُعتبر مرجعيا بعنوان “نفسية الجماهير” مؤداه أنه لأول مرة في تاريخ البشرية تصبح السياسة شأن الجماهير حيث صار تأثيرها ملموسا، من خلال ظواهر اجتماعية جديدة: الاقتراع العام، التعليم، الانتظام في أحزاب ونقابات، إلخ. الأمر الذي استحدث أساليب جديدة في العمل السياسي. لم يعد الأمر يعتمد لا على الذكاء، أي التحليل المنطقي والإقناع، ولا حتى على القوة، بل على التأثير على الجماهير من خلال دغدغة عواطفها أو توظيف الشعور الجامع، أو مغازلة ما يسمى في علم النفس بالجرح الوجودي. ليس معناه أن القوة، سواء أكانت خاما، أو تعتمد وسائل أخرى مثل المال، أو أن الذكاء اختفيا من مجال السياسة، بل أصبحا يتعايشان مع هذا العنصر الطارئ، الجماهير. أفرز الأمر أسلوبا جديدا في الخطاب، هو ما يسمى بالشعبوية، وهو لا يكون مؤثرا إلا إذا ارتبط بالشعور الجامع، أو الجرح الوجودي، حيث تكون الجماهير مستعدة تلقائيا على أن تتقبل ما تريد أن تسمعه فيما يسمى في علم النفس بالإقناع الذاتي.
تعتبر كل من الفاشية أو النازية، وفي حدود أقل الشيوعية، إحدى تجليات ظاهرة عصر الجماهير، من جهة، من خلال التخاطب معها وفق ما يؤثر فيها، إما بالإحالة على ماض مشرق (حالة إيطاليا، وعظمة روما)، أو الجرح الوجودي من خلال التركيز على الشروط المجحفة التي فُرضت على ألمانيا غداة الحرب العالمية، ومن جهة أخرى من خلال القدرة على التعبئة.
نعم، لكل المجتمعات خصوصياتها التي تتأبّى على المقارنة الميكانيكية، ولكن لا يمكن أن نذهل عن أوجه التشابه. وتعتبر مصر حالة مدرسية لأنها الدولة الأولى في العالم العربي التي كانت في احتكاك مع التيارات الفكرية والسياسية التي اعتورت أوربا. ليس من قبيل الصدف مثلا أن يترجم زعيم الوفد سعد زغلول كتاب نفسية الجماهير لغوستاف لوبون إلى العربية. لقد أدرك سعد زغلول حتما أن شيئا ما يعتمل بمصر، وهو الأمر الذي سوف يتبلور مع الإخوان المسلمين.
اعتمدت جماعة الإخوان المسلمين على الشعور الجامع، وعلى الجرح الوجودي، وعلى قوة تنظيمية صلبة. دخلت في صراع أول الأمر مع الوفد الذي كان يمثل آنذاك الذكاء، أو الوطنية المصرية على غرار الحركات القومية في أوربا، ثم حصل ما لم يكن لدفعه من سبيل، الاصطدام مع القوة من خلال الجيش… القوة المادية البحتة أول الأمر، ثم القوة المالية وشبكات المصالح فيما بعد من خلال الحزب الوطني الديمقراطي، أو كليهما.
ليست ظاهرة الجماهير حكرا على الأنظمة الشمولية، بل حتى الأنظمة الليبرالية، والأحزاب في الغرب غيّرت ولاءها من النخب إلى الجماهير. أصبح من يفوز بالتكريس هو من يستطيع أن يتكلم لغة بسيطة، ويغازل الجماهير العريضة، ولم تفرز ميكانيزمات الاختيار أشخاصا أفذاذا أمثال روزفيلت ودوكول وتشرشل، إلا في ظروف الأزمات أو الحرب.
كل هذا يسائلنا. نعم لنا خصوصيتنا ومسارنا وإكراهاتنا وتطلعاتنا. ظاهرة الجماهير ظاهرة عالمية تندرج في المسار الطبيعي لتطور المجتمعات الحديثة، ومن العبث الوقوف أمامها، والمحاولات التي سعت أن تدرأها كانت لها مضاعفات وخيمة على بلدانها. بل حتى الجانب الآخر من القوة، وهو هنا المال، كان له أثر محدود في الحد من خيارات الجماهير وميولاتها الغالبة، ودرء التنظيمات التي تتوسل الوجدان أو الأنا الجماعي.
يمكن أن ننظر إلى الغرب مرة أخرى وكيف استطاع أن يتعامل مع ظاهرة الجماهير، أولا من خلال وجود بنية لنواة صلبة، مُشكّلة من مؤسسات قوية ومستقلة، سواء في الإدارة أو القضاء، ومجتمع مدني مؤثر، وصحافة حرة، تظل جميعها صمام الأمان أمام ما قد يَعِنُّ من جموح الجماهير و زيغها. ومن الطبيعي أن تُنحيَ التنظيمات الجماهيرية باللائمة على هذه المؤسسات وتنتقدها فتنعتها مثلا بالدولة العميقة أو Establishment وما شابه ذلك.
وأما الجانب الثاني الذي يميز الغرب، وبالأخص الولايات المتحدة، هو المؤسسات التي تعتمد الكفاءة في تدبير الشأن العام سواء داخل الإدارة، أو بموازاة معها، من خلال مراكز البحث. تظل هذه البنيات التي تعتمد الكفاءة والخبرة الضامنة للمصالح العليا للبلاد حيث تنتفي التمايزات الحزبية أو المصالح الفئوية أو تأثير اللوبيات. بتعبير بسيط، لا يمكن أن نختزل السياسة إلى من يستطيع أن يغازل الجماهير، وإلى من يستطيع أن يوظف المال. كل هذا يفرض علينا أن نحدد مفهومنا للسياسة: هل هي حرب مواقع، وتدافع أشخاص، بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، ويمكن، والحالة هذه، للشخص أن يلبس لكل حالة لبوسها، وينقل ولاءه من تنظيم لآخر، وفق ما قد يحمي مصالحه، أو يحقق مآربه الشخصية؟ أم أن السياسة هي رؤية وتصور مجتمعي وتماهي مع قضية، حتى لو أدى الأمر إلى التضحية بالمصالح الشخصية إن هي تعارضت مع ما يؤمن به؟ إلى هذا الفهم يجنح أرسطو، و هو ما يطابق مفهوم السياسة عنده، أما سباق المواقع فلا يستحق من منظوره لفظ سياسية، ويخصها وأصحابها بالازدراء. الانتخابات لحظة مهمة في التنظيمات الديمقراطية، بيد أننا لا يمكن أن نختزل الديمقراطية في الانتخابات ولا العمل السياسي في تعقب أصوات الناخبين. هناك عمل آخر لا يقل أهمية عن التدافع والتراشق، هو التفكير في أناة وروية، في تفاعل مع الواقع، ومع المواطنين. بتعبير آخر، يجدر بنا أن نجعل من السياسة سامفونية تتحقق فيها إرادة الجماهير ورؤية الصفوة، يكون المال فيها وسيلة لا غاية، وإلا أضحت كاكوفونية ممجوجة.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير