ترددت كثيرا في عنونة مقالي هذا، عمّا عُرف بالهجرة الجماعية من الفنيدق نحو سبتة، وتأرجحت ما بين النكسة، كجسم معافى ظاهر الأمر أصيب بنكسة، أما باطن الأمر، فهي نكسة كنكسة مصر حيث سقطت أوهامها في ،1967 وبين “فرْشة“، بتخفيف الراء، أي تعرية، من الأمازيغية، والتي سرت في الدارجة المغربية، وانتهيتُ وقد فعل الزمن فعله، بجرس إيقاظ عسى أن نصحو، لأن ما يترصدنا ليس أن نغفو ولكن أن نغور في السُّبات وقد بدت منا معالمه. لا شيء يحركنا، ولا شيء يثير انتباهنا.
ما حدث في الفنيدق من “هجرة جماعية“ يسائلنا. يسائل الدولة أولا وقدرتَها “الاستباقية“ في رصد حدث يمَسُّ الأمن ويلثم صورة البلاد. أين كانت أجهزة الرصد التي تعرف دبيب النملة؟ أخفِيَ عنها جحافلٌ بالآلاف، تسير في مسيرة جماعية؟ أين هي أدوات الترصد والتتبع، والقائد والمقدم… فأين قوتها الأسطورية في الرصد؟
وتسائل الهجرة من حضنوا كل البرامج المجتمعية البرّاقة، من محاربة الفقر، والتنمية البشرية، والنموذج التنموي الجديد. ها هي قطوف تلك البرامج. وتُسائل من رعوا خيارات اقتصادية زادت الغنيَّ غِنى، والفقير فقرا، واستفحلت معها الفوارق الطبقية. وتُسائل من رعوا مشاريع “مدرسة نموذجية“، ومخططات استعجالية، وقبلها ميثاق التربية الوطنية، والرؤية الاستراتيجية، وكأن التعليم مجرد تعلم وليس تربية. والعبرة بالنتيجة. هل كان يمكن لفتى مفعم بثقافة بلده، متشرب لتاريخها، أن يلقي بنفسه إلى الهلاك، ويَكفُر ببلاده، ماضيها وحاضرها ومستقبلها؟ أذكر ما قاله المرحوم فريد الأنصاري، وأتبناه، أنْ لا يمكن لفتى يعرف تاريخ بلاده أن يلقي بنفسه في قوارب الموت، حينها أو سياج الموت يومها.
هذا عن الدولة. ثم آتي للجسم السياسي، وعلى رأسه الأحزاب التي جعلت “أمهات المعارك“ الحصول على مقاعد في البرلمان، أيا كانت الوسيلة، ومحفظات في الحكومة، ولو كانت بغير حقيبة، وبعض من قياديها “الأفذاذ“ الذين نزلوا بالنقاش السياسي، إن كان أن نسميه نقاشا إلى الحضيض، وخبطهم العشواء، يسيئون إلى أنفسهم وأحزابهم، ويسيئون لصورة البلد.
ولنا حظنا من المسؤولية، أصحاب الفكر والرأي، لأننا اعتقدنا أن الخطاب يمكن أن يبلغ آذانا به وقُر، ولأننا نغتر مرحليا ببعض الفقاقيع، ولأننا نحسن الظن، حيث لا يجب. ومن الحزم سوء الظن أحيانا. ما حدث في الفنيدق ليس هيّنا، يُنهي، مع بُعد الفارق، ما سمي بالاستثناء المغربي، إلى أن أنهته أحدث 16 ماي 2003 الرهيبة… كانت تلك الأحداث عبارة عن نقر جرس، أيقظت جسما غلبه الوسَن، فهل تكون أحداث الفنيدق، نقر جرس، يوقظ جسما يترصده السُّبات…؟
طبعا “الهجرة الجماعية“ للفنيدق، أعقد من أن تُردَّ إلى مجرد أسباب اقتصادية واجتماعية وثقافية، ولكن إلى أيادي خفية كذلك .لكن الأيادي الخفية أصبحت جزءا من اللعبة، ولا يُعفي قوات الأمن من ضرورة الرصد .أصبحت السيادة نسبية مع وسائل الاتصال الرقمية والأدوات السبرانية والذكاء الاصطناعي. ليس من السياسة في شيء، ولا من المسؤولية، ولا من حصافة التحليل، إلقاء التعِلَّة على الآخر.
الفنيدق جرس يقظة. فعسى أن يوقظنا، ولن نستيقظ بمقاربات تقنية، وتسيد أمني، وبوار حزبي. يلزمنا طموح جماعي. وهذا الذي يُعْوِزُنا.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير