تكمن أهمية الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان في كونها أول منشور ذي أهمية تصدره الجماعة بعد وفاة مؤسسها وشيخها عبد السلام ياسين .كما أن الوثيقة إياها عمدت إلى استعمال قاموس لساني يختلف عن الإنشاء اللغوي الذي كانت تستعمله في السابق. ولعل القارئ المتنبه سوف يلاحظ أن لا جديد في الوثيقة إياها من حيث التوجه العام للجماعة إلا طريقة استنساخها للوثائق الحزبية المغربية التي تجعل القارئ يَمَلُّ بعد قراءة ثلاث أو أربع صفحات .إذ جاءت مليئة بالحشو اللغوي السياسي الفضفاض .لم تتوفق الوثيقة عند التعرض للمقترحات السياسية، فهي تردد بشكل تبسيطي وَصَفَاتٍ معروفة عند الأحزاب السياسية من اليمين إلى اليسار. كما أنها تُظْهِرُ ضعفا كبيرا فيما يتعلق بالاقتصاد والتدبير، والثقافة، والفن، والتواصل. تكتفي بسرد عدد كبير من الانتقادات التي نصادفها يوميا في صفحات الجرائد والتي تمثل في مجملها انطباعات لا تنبني على برنامج معين دقيق. ولعل ما يثير اهتمام القارئ هو تشبث الوثيقة بمفهومين أساسيين تمت بلورتهما على يد عبد السلام ياسين شيخ الجماعة وملهم أفرادها؛ يتعلق الأمر بالخلافة والتربية.
فيما يتعلق بالخلافة، لم تتراجع الجماعة عنها ولم تُطَوِّرها، بل غلفتها داخل ركام من الكلام الذي يتأرجح بين القاموس الصوفي تارة وبين الفقهي تارة أخرى وبين المقترحات السياسة الغامضة في أحايين أخرى. لكن المبدأ الذي تأسست عليه الوثيقة من سطورها الأولى هو ما سمته بالنظام الشوري؛ «ذلك أن ما عرفته الأمة منذ الانكسار التاريخي وما تعيشه أغلب المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة من ترد وانحطاط، يعود في جزء كبير منه إلى تغييب الشورى باعتبارها جوهر الحكم وركيزته الأساس». ثم يحدد محررو الوثيقة في هامش أسفل الصفحة ما الذي يقصدونه بالانكسار التاريخي قائلين: «قصد بالانكسار التاريخي انقضاض عروة الحكم، والانقلاب الغاشم من خلافة راشدة إلى مُلْكٍ عاض وراثي. يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه لله: «الانكسار التاريخي حدث محوري في تاريخ الإسلام، وسيبقى فهمنا لحاضر الأمة ومستقبلها مضببا، بل مشوشا غاية التشويش، إن لم ندرك أبعاد تلك الأحداث وآثارها على مسار تاريخنا» (نظرات في الفقه والتاريخ، ص. 27)». أما فيما يتعلق بالتربية، فإنه إذا كان مفهوم التربية يختلف من سجل ثقافي وسياسي إلى آخر، فإن محرري الوثيقة إياها لم يكلفوا أنفسهم عناء تحديد مفهوم التربية، بل ينطلقون من قناعات الشيخ المربي أي عبد السلام ياسين. لا يحددون المفهوم، لكنهم يتحدثون عن الغاية من التعليم والتربية والتي لا تختلف في شيء عما تدعو إليه المدرسة المغربية التي تتشبث بالزوج التقليدي: الأصالة والمعاصرة. إذ يقولون إن «غاية التربية والتعليم في تصورنا، هي تربية الإنسان الحر المتشبث بدينه وهويته، والممتلك للمعرفة والخبرة بما يستجيب لاحتياجات الفرد والمجتمع (ص. 167)». هذا فيما يتعلق بالتربية كبرنامج حكومي سياسي، إلا أن التربية عند الجماعة لها مفهوم آخر يكاد يقترب من الجماعات السرية كتلك التي أسسها الحسن بن الصباح في قلعة ألموت بإيران. وحسب الوثيقة، فإن الفكر المنهاجي يحدد أن «التربية عملية على نجاحِها يتوقف ميلاد المسلم إلى عالم الإيمان ثم نشوؤه وتمكنه ورجولته». وفي هذا الصدد، تشير الوثيقة إلى مصدر إلهامها حيث تورد قول عبد السلام ياسين: «الروح المحِّركة التي بها تحيا التنمية، وتتأّتى العدالة، وتتألق الحضارة، وتتميز الهوية، إن لم تكن روحا لإيمان بالله ورسوله، وشريعَة الإسلام فإنما نحن ناس من الناس. لا نكون خير أمة أخرجت للناس كما يريد لله تعالى لنا» (الشورى والديمقراطية، 1996، ص. 271 و272)». وبهذا، فإن التغيير السياسي في مشروع الجماعة يرتبط، على مستوى مبادئه وقيمه، ارتباطا وثيقا بالمشروع الدعوي العام، وبالتغيير التربوي والأخلاقي.
وبالعودة إلى التفسيرات التي يقدمها فقهاء الفكر الياسيني (نسبة إلى ياسين) إذا صح القول، فإن «التربية إذن عملية تزكية من تخلية وتحلية باطنا وظاهرا، يخضع لها المسلم لترتقي به من عالم الإسلام إلى عالم الإيمان. وبذلك الارتقاء تصبح له نشأة إيمانية، وتصبح له إمكانيات العمل والدعوة والجهاد والحركة، وتتجسد فيه رُجُولَةُ المُجاهِدِ الشَّاهِدِ بالقسط باعتبار التربية الواجهة الأولى من واجهات الجهاد».
يُذَكِّر هذا المنحى بمفهوم التربية كما تصوره الفكر الفاشي على عهد موسوليني، والذي كان يسعى إلى إعادة خلق إيطالي آخر غير ذلك الذي كونته الدولة الحديثة. كان مربو الفاشية يحاولون إنشاء إيطالي صلب، يستعيد رجولته بالإيمان والتشبث بالهوية ضدا على كل الأفكار الدخيلة.
من خلال هذين المفهومين، يبدو أن ما أثاره النقاش حول تحول الجماعة واتجاهها نحو مفهوم جديد للسلطة والعلاقة مع أفراد المجتمع لا يعدو أن يكون أوهاما أو قراءات متسرعة للوثيقة.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير