لا أدري ما قد يكون لصوت خفيت من صدى، أمام جلبة الصراخ والصياح، هنا وهناك، لجيل لا يرى ولا يسمع ولا يعقل إلا ما يحمله الصخب والغضب... ومع ذلك، فقلما تجد شعبين في العالم يجمعها ما يجمع الشعبين الجزائري والمغربي. يظهر هذا الإحساس حينما يلتقي مغربي بجزائري خارج بلديهما، فتقوم بينهما وشائج طبيعية، مثلما يبرز هذا الشعور في الخطوب والمُلمّات، كما ظهر في ملحمة حرب التحرير الجزائرية .وحينما اكتوت الجزائر بلهيب الإرهاب، كان الشعور الغالب لدى المغاربة، هو المواساة والتضامن …دعْنا من السياسة والسياسيين. أذكر ما كنت أسمعه في البيوتات في كل ربوع المغرب، وفي كل الأطياف الثقافية، من تضامن خلال مع يُعرف بالعُشرية السوداء، سوى فئة قليلة، ولا قياس على الشاذ، ولم يكن بدْعا أن يعبر الجزائريون عن تضامنهم مع المغرب في محنته لما ضرب الزلزال منطقة الحوز… كان الشعور الغالب، هو التضامن مع أطياف الشعب المغربي إذ أتى الزلزال على بيوتهم، ورزأهم في أسرهم، سوى فئة قليلة، من الشواذ، ولا قياس على الشاذ…
ولكننا في تحول يصبح فيه الشاذ هو القاعدة، مع جيل نشأ ودرج على العداء، المبني على الجهل… ربما كانت هناك فترة ساد فيه عداء، على مستوى الحُكم، لاعتبارات إيديولوجية، ولكنه لم يكن ينبني على الجهل… كانت الطبقة السياسية والثقافية بالمغرب تعرف الجزائر، ومنها من درج بها، وعانق توجهاتها، مثلما كانت الطبقة السياسية والثقافية في الجزائر تعرف المغرب، ومنهم من عاش بالمغرب إبان حرب التحرير وقبلها…
هناك وضع موضوعي لا يمكن أن نتجاهله، وهو الاختلاف حول قضية الصحراء. والحكمة أن نترك ما نختلف حوله، لفائدة ما نلتقي بشأنه. لا يمكن للمغاربة أن يتحولوا عما يؤمنون به فيما يخض مسألة وجودية، لأن المغرب ببساطة وُجد قبل الاستعمار، وليس صنيعة ترتيبات كولونيالية… ولو كنا مما سطرّه المستعمر، لكان حقا “بسط السيطرة على الصحراء“، تسلطا، واحتلالا، وما شئت… ولم يفتأ المغرب منذ استقلاله يطالب باستكمال وحدته الترابية والبشرية والمجتمعية …لمن شاءألا يشاطرنا تصورنا عن ذاتنا وتاريخنا .نريده أن يبذل الجهد في فهم موقفنا، وأن يقف وقفة موضوعية في مسار استكمال وحدتنا عبر مراحل …وإن لم يستطع، فلنجعل الخلاف بين عارضتين، وهو أضعف الإيمان.
قد يعتبر البعض أن هذه الرؤية تنطوي على مطامع تاريخية… كلا. ولا يوجد عاقل بالمغرب يدعو إلى ما يسميه البعض بـ“المغرب التاريخي“، أو يؤمن بذلك، ولا شيء بدر على المستوى الرسمي، وهو المرجع، يتحلل من الالتزامات التي أبرمها المغرب، وصادق عليها. يؤلمني حقا، وأنا أسمع نائبا في مجلس الشعب الجزائري يزعم أن الخريطة المعلقة في البرلمان المغربي تتضمن تلمسان وبشار… وحللت غير ما مرة بالبرلمان المغربي .والخريطة الوحيدة هي الخريطة التي يؤمن بها المغاربة، من طنجة إلى الكويرة، ومن وجدة إلى رأس سبارتيل… وهي لا تتضمن لا بشار ولا تلمسان، ولا ما يسمى بالصحراء الشرقية…
الحدود عبر مسار التاريخ غير قارّة ومتحولة… ولكن بنفس النظرة الواقعية التي تغلب على ذوي العقل في المغرب، وتنطلق مما يربط بلدينا من مواثيق، وتقوم أو ينبغي أن تقوم على احترام خصوصية بلد، وحدوده، وعدم التدخل في شؤونه، بقدر ما تستحثنا نظرة مثالية، هي تذويب الخلافات في فضاء أوسع، هو اتحاد مغاربي كان أملَ جيل الاستقلال، وما يزال قائما، مما يجعل ساكنة وجدة وبركان تجد ذاتها في محيطها الطبيعي والثقافي والاقتصادي، مع منطقة وهران، وكذلك بالنسبة لساكنة مشرية مع فكيك، وأهل بشّار مع الرشيدية، ولمن يجد مصلحة اقتصادية من البليدة، أن يرتبط مع نظير له أو شريك في المحمدية أو مكناس، وهلم جرا… حينها تصبح الحدود، حينما يستطيع الشخص أن ينتقل من غير قيود، مجرد خطوط على الخريطة، كما في أوربا التي أرست وحدة رغم الاختلافات الثقافية، واللسانية والمذهبية، والإحن التاريخية والدينية التي مزقتها، وما لبثت أن تجاوزتها…
إن لم نستطيع أن نعانق الحد الأدنى من حسن المعاملة، والبرغماتية، فلْنكفُّ عن الكذب والافتراء…
وما زال الوقت لكي يُسمع العقلاء أصواتهم، هنا وهناك، غير النعيق والنهيق، عفوا، عدا الصخب والغضب… لما هو في مصلحة شعوبنا والمنطقة…
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير