أقتبس عنوان مقالي من عنوان كتاب قيّم لدبلوماسي إسباني محنك هو ألفونصو ذي لاسيرنا، مَن شغل منصب سفير لبلاده في الرباط، من سنة 1977 إلى غاية سنة ،1983 في أوج أزمة الصحراء، ورصّع تجربته بكتاب نفيس، يجمع فيه إلى المعرفة الدقيقة لتاريخ المغرب، المقاربة الموضوعية والتحليل الحصيف مع الرؤية الاستراتيجية. ولعل ما قد يُشار إليه هو أن ينصح المسؤولون المغاربة الدبلوماسيين الإسبان بقراءته.
المشاكل التي تَعرض ما بين المغرب وإسبانيا إنْ هي إلا أعراض لأدواء تاريخية عميقة .يغلب على العلاقات المغربية الإسبانية طابع الغيرية، وتتحدد هوية كل طرف بمناوأة الطرف الآخر. يطبع التوجس الإسبان تجاه جارهم الجنوبي، ويصوغ ذلك مخيالهم، يمتزج في ذلك سابقة حكم “المورو“ لشبه الجزيرة الإيبيرية وما ترتب عنها من حروب الاسترداد. وما يزال المغاربة تحت أثر احتلال مواقع وحدث الاستعمار، فمخلفاته .كان من الممكن، يقول الدبلوماسي، البرء من سوء الفهم التاريخي، مستشهدا بجنرال إسباني، ذي تكوين أكاديمي، لو أن إسبانيا تخلصت من إرثها الإسباني حينما نصح الرئيس الأمريكي إيزنهاور سنة 1956 بـ«تسليم المغرب جميع ما لدينا في إفريقيا الغربية»، وكانت الفرصة الثانية، هي الانسحاب حينما تسرب جيش التحرير إلى “إفريقيا الغربية الإسبانية“ .لو فعلت إسبانيا حينها، يقول الدبلوماسي، «لما كان هناك مشكل الصحراء».
والمشكل من منظور هذا الدبلوماسي المحنك ليس إسبانيا، ولكن فرنسا، فهي التي كانت تتهيأ لتأبيد تواجدها، عبر أشكال جديدة، وتدفع إسبانيا إلى ذلك بالتبعية. والسياسة الفرنسية مستمرة، ومن يقودها هي الجزائر، أي أن محرك فرنسا الاستعمارية لمّا كانت محتلة للجزائر من أجل النفاذ إلى المحيط الأطلسي، هو ما يحرك جنرالات الجزائر اليوم. والنزاع، يقول الدبلوماسي، هو ما بين المغرب والجزائر، لأن الجزائر “كانت وما تزال ترى بانشغال كبير إمكانية تعزيز المغرب لموقعه الاستراتيجي على الساحل الأطلسي مع احتمال إغلاق السبيل أمامها إلى المحيط الأطلسي، ويرى المغرب من جهته تهديدا بالتعبئة، أي أن يؤدي امتداد الجزائر في الأراضي الصحراوية إلى تطويقه من جهة الجنوب، وطمس تواصله التقليدي والانسياب مع الصحراء وبلدان جنوب إفريقيا“.
لا يحتاج المغاربة أن يشرحوا للإسبان ملف الصحراء، ولا طبيعته الوجدانية، وأبعاده الوجودية والاستراتيجية، ويكفيهم أن يَدلّوهم على قراءة هذا التحليل الرصين، بلغة رشيقة، والذي قدّم له من كان وزيرا للخارجية ميغيل موراتينوس.
هناك رؤى حصيفة في إسبانيا تؤمن بالتآلف التاريخي ما بين الضفتين، وترى أن كلا من إسبانيا والمغرب مؤتمنان على تراث إنساني ورسالة كونية للتعايش .يُعبر بعض الإسبان عن طبيعة هذه العلاقة في صورة قوية، إذ علاقة المغرب بإسبانيا هي بمثابة علاقة زوجية لا تخلو من شنآن، على خلاف علاقته بفرنسا التي هي علاقة خليلة، إذ لا يشترك الخليلان إلا ما يكون في منأى من التنغيص.
والعلاقة مع الزوجة أدوم، ولذلك ينبغي أن نعيد التفكير في علاقاتنا بإسبانيا، والمسؤولية مشتركة، لأنه ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار الجوانب الذاتية والوجدانية، وأن يراعي كل طرف ما هو في دائرة الوجدان، وفق قوالب جديدة غير تلك التي انتسجت في أوربا .ذلك أن حدود أوربا الجنوبية، هي كما كان يقال جبال البيريني، وأن إسبانيا والمغرب وحدتان جغرافيتان مميزتان، ومن ثمة تاريخيتان، هما في ذات الوقت، استمرارية لأروبا وامتداد لأفريقيا. و ينبغي أن نفكر فيما يخص القضايا الخلافية، خارج قوالب السيادة التي انتسجت في أوربا، ونأخذ بعين الاعتبار التمازج الذي طبع الضفتين، أو العَدْوَتين بتعبير قديم.
في إسبانيا هناك يمين متشدد ويسار متطرف، ويلتقيان في توجسهما من المغرب ومناكفتهما له، ولكن إسبانيا لا تُختزل في اليمين المتشدد واليسار المتطرف. لا بد من إحياء رؤوس جسور الالتقاء، ومنها رسالة هذا الدبلوماسي المحنك، الذي يبعث رسالته من وراء الرمس، لتجاوز سوء الفهم التاريخي، ولربط حضاري قار بين البلدين. هو ذا الرهان الأكبر في علاقاتنا مع الجار الشمالي، في دائرة الاحترام المتبادل، لمصالح كل طرف وقضاياه الاستراتيجية، ووجوده، بكل بساطة.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير