لسنا جزيرة منعزلة، ولذلك فما يعتمل في العالم يؤثر فينا، بل إن الدينامية الداخلية في مجتمعنا، على أهميتها، تظل رهينة مؤثرات العالم الخارجي. انهزام فرنسا في الحرب العالمية الثانية هو ما دفع ثلة من الوطنيين على الإقدام على المطالبة بالاستقلال. الحرب الباردة هي ما لجم القوى التقدمية وأعطى لآلة القمع ورقة بيضاء. سقوط حائط برلين هو ما حرر الدينامية الداخلية وطرح قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنوع الثقافي. 11 سبتمبر هو ما سوّغ المقاربة الأمنية. الربيع الربيعي هو ما طرح إعادة النظر في النص المؤسس، وقبول التعاطي مع الإسلاميين المنغمرين في قواعد اللعبة.
نحن أمام معطي جديد. من العسير الحديث عن نموذج اقتصادي نموذجي كما كان الشأن غداة سقوط حائط برلين وما كان يُختزل فيما كان يسمى بتوافق واشنطن. بل إن كثيرا من الاختلالات التي يعرفها العالم، ومنها بلادنا، ناتجة عما يسميه البعض بالرأسمالية توربو، أي السريعة جدا والتي تنتهي في نهاية المطاف إلى إعطاب المحرك، من خلال فوارق صارخة، وتوترات اجتماعية وإضعاف بنية الدولة، وقَصْرها في دورها المُسهل عوض الاستراتيجي. ومن العمى ألا نرى عودة الحرب الباردة وقد أخذت تُكشّر عن أنيابها، وتوزع العالم ما بين أقطاب غير واضحة المعالم، وعزم روسيا استعادة ما كان ضمن الامبراطورية السوفيتية. ومثلما كان يقول الاستراتيجي الأمريكي برزنسكي: «فلولا فيتنام لم يكن لتكون أفغانستان»، يمكن القول بأنه لو لم تكن عاصفة الصحراء على العراق، لما كانت سوريا. فنزول روسيا بثقلها في سوريا هو للبرء من لعنة العراق، حين ترك الحبل على الغارب للولايات المتحدة الأمريكية. ومن الضروري أن ننظر إلى القوى الإقليمية التي تود أن ترسم معالم الشرق الأوسط، ومنها إيران وتركيا، في غياب نظام عربي، بل انهيار المؤسسات العربية وشللها، ومنها جامعة الدول العربية، والاتحاد المغاربي، ومجلس التعاون الخليجي. والدولتان العربيتان اللتان اضطلعتا لفترة بدور الوساطة والحَكم وتقريب وجهات النظر، السعودية ومصر مشغولتان بترتيب أولوياتهما، وهي أمام أوضاع غير مسبوقة. كل هذا يسائلنا.
أولى أولوياتنا، الدفاع عن مصالحنا الاستراتيجية، أو رسم سياساتنا بناء على ما يضمن هذه المصالح. وطبعا يأتي على قائمتها الوحدة الترابية والوطنية (لا ينبغي أن نذهل عن الوحدة الوطنية، مما قد يتهددها من دعاوي تجزيئية أو هوياتية ضيقة) والتعامل وفق ذلك بذكاء.
وثانيها الحفاظ على المكتسبات، ومنها ما يتعلق بحقوق الإنسان، وحرية التعبير، والإنجازات الاقتصادية. إي إجهاز على هذه المكتسبات أو إيقاف له، لسوف تكون له انعكاسات سلبية على كل أوجه الحياة، سواء على مستوى الجانب السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي.
وثالثها، التحلي بالجرأة للنظر لما شاب سياساتنا، سواء الاقتصادية والاجتماعية، ولم لا السياسية، من اختلالات. فالرجوع عن الخطأ خير من التمادي فيه كما في القول المأثور. وإذا كان يسهل التحكم في النخب وضبط خلجاتها، ورفعها وضمها وجرها وصرفها بمختلف الضمائر الظاهرة والمستترة، فمن العسير التحكم في دينامية المجتمع. وقد تكمن هذه الدينامية، وقد تنحجب، ولكن من الخطأ في الرأي تجاهلها، أو الهزء بها، أو اختزال الحياة العامة في المشهد السياسي، والفاعلين في الممثلين، بمعنييه السياسي والمسرحي. أبناء الصحراء يعرفون أنه حينما تندلع عاصفة رملية، فإن أسوأ شيء قد يعمد له من صادفته أنواؤها واعترضه عجاجها، السعي لمعاكستها أو الضرب في الأرض. حينما تندلع العاصفة، تقضى الحكمة، بل مقتضى الحفاظ على الحياة، بأن يلزم الشخص مكانه، أو مثلما نقول “إيشد الأرض”، وهو المثل المغربي الذي يحيل إلى واقع العواصف. أو تلك الحكمة التي يدفع بعض الاستراتيجي الصيني لاو تسو، “عدم الفعل فعل”. أحيانا.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير