لقد استبق مفهوم “الجهاد” النص القرآني. إنه مفهوم نابع من صميم المجتمع العربي للقرن السابع الميلادي، بينما اكتفى القرآن باستعماله لصالحه. الفكرة الأساسية وراء هذه الكلمة هي في الأصل “الجهد” الذي يبذل من أجل بلوغ غاية ما. إذا ما تأملنا بعض الآيات المكية، أي قبل هجرة محمد وغزوات الفترة المدنية، نجد هذا المعنى مثلا في سورة العنكبوت الآية 8: «وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَاك ُنتُمْ تَعْمَلُونَ»، وسورة لقمان الآية 15: «وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون». ما معناه، نهي الأبناء عن الإصغاء لآبائهم حتى ولو جاهدوهم في ذلك، أي حتى و لو بذلوا ما في جهدهم لإبقاء أبنائهم يعبدون آلهة متعددة. لدينا هنا المعنى “البدائي أو الأوَّلي” للمصطلح قبل أسْلَمَتِهِ.
في السياق المَدَني، تطابق مفهوم الجهاد مع الصِيَغِ التقليدية للعمل القَبَلي ولم يكن ابتكاراً جديداً. حيث قام محمد، بعد نَفيِهِ، بعدة عمليات ضد جماعته، ليس بغرض تدميرها، بل لضمها تحت ولائه. وهو ما استطاع أخيرا تحقيقه من خلال المزج بين القتال والتفاوض. في هذا السياق الجديد، لا يأخذ “الجهاد” معنى الحرب المقدسة، بل فقط الدعوة للانخراط والمساهمة في الحركة الجارية. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن المشاركة في الغزوات كانت تنبني على مبدأ التطوع. فكلما تم إطلاق حركةٍ ما إلا وتمت دعوة المتطوعين للمشاركة جسديا أو بتوفير الإمكانيات اللازمة للقتال.
عند انتهاء المعركة وبعد توزيع الغنائم (لم يكن هدف الرسول هو الغنائم بل ضم جماعته في حلف إلهه) يعود كل مشارك إلى شأنه. فكل عملية من هذا النوع كان يجب أن تكون مفيدة، وأن تقدم ربحا لمن يشارك فيها. كانت فكرة التضحية بالنفس في المعركة غريبة تماما عن هذا المجتمع الذي كان يعيش وفق نمط براغماتي، عَمَلي ونفعي يتسم بالعمل على ضمان البقاء وصون الأرواح. موت الفرد في المعركة كان يعني إضعاف الجماعة التي ينتمي إليها وهذا أكثر ما كانوا يخشونه. وقرآن الفترة المدنية حافل بقصص المتخلفين عن المعارك. من يقرأ القرآن اليوم يمكن أن يظن بسذاجة، أن تكرار دعوات المشاركة يعبر عن حماس المقاتلين بينما هو ينم عن عكس ذلك من وجهة نظر أنثربولوجية.
بل وأضيف أنه لا وعد إطلاقاً بالحور العين. من يقول بذلك، إنما يعتمد على قراءة تسقط واقع قرون لاحقة على زمن القرآن، وتعيد تصوره بعيدا عن سياقه من خلال قراءة أفقية غير كرونولوجية للنص القرآني. فالجزء الذي يتحدث عن الحور العين، أو جواري الجنة توازيا مع جواري الدنيا اللواتي كان أسيادهن يريدون بهن كسبا كما جاء في الآية 33 لسورة النور: «وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحاًحتَّى يُغْنِيَهُمْ للَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُم مِّن مَّالِ للَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ، وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِا لدُّنْيَا، وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ للَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ»، هو جزء محدد من القرآن المكي الذي كان موجها لاستمالة وإغراء أعيان مكة، وهو الإغراء الذي لم يؤثر في المستهدفين به، فلم يظهر له أثر بعد ذلك في القرآن، ولا أثر له في مخاطبة المقاتلين الذين تخاطبهم سور الفترة المدنية.
أما جهاد القلب، فلم يظهر إلا في المجتمعات اللاحقة التي لم تكن لها أية صلة بالفضاء الذي عاش فيه محمد. كانت معارك الخلفاء الامبراطوريين معارك كلاسيكية ضد الامبراطوريات المنافسة (القوى العظمى لتلك الفترة، وكانت تخوضها جيوش تقليدية مشكلة، غالبا، من مرتزقة أتراك انتهوا بالسيطرة على السلطة، كما كان شأن السلاجقة خلال القرن 11). عندما بدأت الهجومات الصليبية في نهاية القرن 11 حاول بعض الأمراء إحياء الماضي بالحديث عن الجهاد. في القرن 13 استعمل الأمير الكردي صلاح الدين الأيوبي مفهوم الجهاد بطريقة إيديولوجية لتعبئة الرأي العام، لكن في الواقع، الجيش النظامي هو الذي كان يخوض القتال.
نعثر على مفهوم جهاد القلب، على الخصوص، في الوسط الصوفي، حيث الدعوة لمحاربة أهواء النفس وميولاتها السيئة لتطهير الروح والشروع في مسار نحو لله. هذا هو أصل الجهاد السلمي الذي ينادي به الكثيرون اليوم. هذا التأويل لا يمت بصلة، لا إلى القرآن في سياقه، ولا إلى عالم محمد. فهذه المقاربة الروحية ظهرت في أوساط المعتنقين الجدد للإسلام خلال القرن التاسع الميلادي وخاصة في القرون اللاحقة مع تطور الطرق والزوايا الصوفية، مستندين في ذلك على الأبعاد الروحية لدياناتهم الأصلية خاصة المسيحيه.
رشيد بن الزين