منذ أن تشرفت بكتابة هذا العمود على المجلة، وأنا لا أجد صعوبة في اختيار موضوع راهن أتناوله بالتحليل والتعليق، لكنني وأنا أعد مقالي لهذا العدد الذي سيمكث بالأسواق طيلة شهرين، لم أجد فيما يجري من الأحداث محليا وإقليميا ما يمكنني الوقوف عنده ومحاولة فهمه أو تحليله، فلا جديد في السياسة مع أننا على بعد أيام قليلة من الانتخابات التشريعية والجماعية، والأحداث الساخنة في تونس ما زالت في بدايتها، ومن الصعب معرفة الوضع بدقة في هذا الوقت المبكر. وليس من جديد سوى إخفاق الرياضيين المغاربة بأولمبياد طوكيو واحدا بعد الآخر، كما كان الحال في لندن وريو دون أن يحاسب أي مسؤول أو يفتح أي تحقيق حول هذه المهزلة.
لكن حلول الذكرى الثانية والعشرين لتولي الملك محمد السادس حكم المغرب، أيقظت في نفسي كثيرا من الذكريات، وحركت في داخلي حزمة من المشاعر المختلطة، أتذكر أين كنت وكيف كنت وفيما كنت أفكر وماذا كنت أفكر، وهل كنت أتصور أو أتوقع ما سيكون مما سأعيشه ويعيشه من معي، من أحداث كبرى، ومحطات مفصلية في تاريخي وفي تاريخ المغرب الحديث.
كنت يومها شابا في مقتبل عمره، أتابع دراستي بالسنة الأولى من سلك الماستر بكلية الآداب بفاس، أنهيت حصص لذلك اليوم الذي كان حارا كعادة فاس أواخر يوليوز، وتوجهت لزيارة صديق بالحي الصناعي بالعاصمة العلمية. كانت الأجواء هادئة وكئيبة، لا يغادر الناس ديارهم زمن الحر بفاس إلا في وقت متأخر. وحدها همهمات بعض التجار عن توقيف البث التلفزيوني والإذاعي لتحل بدله تلاوة آيات من القرآن الكريم ما أثارت شيئا من الريبة والشك، دون أن يقدر أحد على تخيل ما سيقع. نحن الجيل الذي لا يمكنه أن يصدق وجود مغرب ليس به ملكه الحسن الثاني، حتى المعارضون له وخصومه لم يتصوروا أن يعيشوا ذلك اليوم، حتى بعد أن ظهر مصطفى العلوي على شاشة التلفزيون ينعي للمغاربة ملكهم. بقي الكثير غير مستوعب للحدث.
كم هي الأفكار التي جالت برأسي منذ تأكد الخبر إلى حين انعقاد البيعة لملك المغرب الجديد. لم يكن حلمي، يومئذ، يتجاوز ألا يظل إدريس البصري كاتما على أنفاس المغاربة، وأن يغادر عبد السلام ياسين إقامته الجبرية. حتى وأنا أتابع وقائع انعقاد البيعة وانتقال الحكم بسلاسة، لم يكن فهمي البسيط يستوعب دلالات تلك الطقوس، ولا كان لي وعي بدلالاتها ورمزيتها، ولا تصورت أن أدافع يوما عن دورها في الحفاظ على الاستقرار والوحدة.
لكن لم يجر ببالي مطلقا أن يتجاوز الأمر إقالة البصري إلى أحداث كبرى ومحطات مثيرة. كنت فاعلا في بعضها، مسلسل الإنصاف والمصالحة وجلسات الاستماع المنقولة على التلفزيون كانت أشبه ما يكون بالخيال. تعديلات قانون الأسرة تلقيتها بكل امتعاض .لم أكن أعلم أني سأكون يوما على رأس المطالبين بتعديل هذه التعديلات، بدعوى أنها استوفت زمانها وتحتاج إلى تجديد وتطوير، الحرب على التطرف والإرهاب. فجأة، تحولت من ذلك الشاب إلى شيخ يحلم بإقامة الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة، ويتحمل من أجل ذلك قساوة السجن وألم القضبان.
لم أتصور في ذلك اليوم، من آخر صيف في القرن الماضي، أن أغادر السجن بعد تسع سنوات، وقد تغير الدستور، وتغير المغرب، وتغير من كنت أعرف من الناس، وتغيرت أنا. لم أعد ذلك الإسلامي الحالم بطوبى الخلافة. أصبحت ذلك الرجل المدافع عن الدولة الوطنية، عن الملكية ومؤسساتها، عن حقوق الإنسان، عن المرأة وقضاياها، عن الفن والموسيقى والمسرح، عن تمغربيت بكل مخزونها و تراثها وتاريخها.
وقائع متسارعة عرفها المغرب خلال 22 سنة، رغم أنها فترة قصيرة جدا في تاريخ الدول، لكنها كانت حبلى بالأحداث التي صنعت مغرب اليوم، بكل ما يستحق الإشادة والتنويه، وبكل ما نحمل من آمال عن المغرب الذي نحلم بالعيش فيه. أنا الشاب البسيط الذي كان في ذلك اليوم الحار يعيش لحظة الانتقال، أكتب هذه الخواطر على متن القطار السريع، الذي يقطع ما بين الدار البيضاء وطنجة فيما يقارب الساعتين، كل عام والمغرب وملكه بألف خير.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي