أستقي هذا العنوان من مقال نشره أحد المواقع بعنوان “هذه أبرز التحديات التي تواجه المغرب في عالم المفارقات والتناقضات“، بتاريخ 31 يوليوز .2021 المقال يبدو تقريرا أكثر منه مقالا. هو قراءة نقدية لوضع العالم، والتغيرات التي يطفح بها، والسوانح التي قد تطرحها المتغيرات الدولية، والمثبطات التي تبرز، إما من خلال لعبة دولية تريد أن تُبقي على مصالحها، أو بنيات مهترئة لم تحسن قراءة التطورات، ولا هي قادرة على ذلك، فبالأحرى أن تواكبها.
يبدو المقال ترجمة، رغم أن الترجمة حرصت أن تُبقي غالبا على نسغ اللغة العربية، ولكنها لم تسلم من هفوات الترجمة بالإبقاء على بنية اللغة الفرنسية التي صيغ بها النص .والذي يهم من هذه الإشارة، أن “صاحب“ المقال على إلمام بالمتغيرات العالمية، ذو بنية ذهنية لاستيعابها ونقدها، متمرس بمقاربة كارتزية، وإطلاع غير الذي تزجيه الصحافة عندنا أو حتى الجامعة.
المقال مهم، بل مهم جدا، وخليق أن يكون أرضية لحوار حول مشروع مستقبل المغرب. ينطلق المقال من هاجس مشروع، وهو النهضة، والنهضة ليست قرارا، بل تراكم ظروف موضوعية وسياق دولي. يجري مسحا للخارطة الدولية لا بهاجس المتابعة ولكن للانعكاسات الممكنة والتداعيات المحتملة على بلادنا .يجري المقال قراءة حصيفة على واقع الحال المغاربي، الهش، والذي لم يستطع أن يرقى لكي يكون قوة اقتصادية وسياسية وازنة، وظل وضعه، بالتبعية، مهترئا مرشحا لكل الاحتمالات. لا يلقي صاحب المقال بالمشروع المغاربي، ودعامتُه مصالحة ومصارحة مغربية جزائرية، ولكن بذات الوقت لا يمكن لذلك أن يتم على حساب «تحقيق المغرب لوحدته القطرية وصيانتها» (الحفاظ عليها أو صونها)، في «انتظار تحول في السياسات والدبلوماسيات المغاربية» (وليس المغربية كما ورد في النص)..
ينتقل “صاحب“ المقال/ التقرير إلى الوضع الإفريقي، أو على الأصح إلى المنظمة الإفريقية التي لم ترتق إلى ما تفرضه الرهانات الدولية، والتي هي حسب المقال “جامدة مجمدة“. لا يحابي المقال أوربا، وما يقع تحت وطأتها من عقدة الاستعلاء الناجمة عن الإرث الاستعماري، والوصاية، والتنافر، فيما يشبه سيكوزفرينة ما بين ما تدعيه من قيم، وما تنهجه من سياسات، ووقوعها في ملازمة “الفوبيات“.
واللافت في المقال هو التركيز على البعد الأطلسي للمغرب، والانفتاح على الأمريكيتين، وأن يواكب ذلك تعاون متعدد الأبعاد.
يفصح المقال عن هوية للمغرب، وهي الخيار الليبرالي الديمقراطي الحداثي. وانطلاقا من هذه الهوية، يعتبر المقال أن ربط علاقات مع إسرائيل من «أهم العناصر المستجدة في السياق العام». المصلحة هي ما يملي على الدول خياراتها الدبلوماسية ، وليس الرؤى الإيديولوجية التي عفى عليها الزمن، أو التشويش من لدن من يُصلّون مع علي ويتعشون مع معاوية، أو مزدوجي الخطاب والفعل. سياق جديد، يحتاج إلى نخب جديدة، عوض النخب الحالية «المثقلة والمهترئة، التي أصبحت عالة» (كذا). وبذات الوقت يركز المقال على أهمية الثقافة، أو أدوات التنشئة الاجتماعية، لمواكبة التحول الذي على المغرب أن يكسبه. وواقع الحال أن وسائل التنشئة من إعلام، ومدرسة ومؤسسات وسيطة ليست في مستوى التحول ولا التحدي. غار الإعلام في المشاحنات والبذاءة والسطحية، إلا في حالات أضحت الاستثناء، و برك الإصلاح التعليمي لا يراوح مكانه، ولم ينتج المغرب، رغم مؤهلاته العدة، صناعة ثقافية ثقيلة، ولم تواكب التطورات في البنيات التحتية إنجازات قيمية ومعرفية وفنية .وينتهي المقال إلى نتيجة، بل إلى مُسلّمة، وهي أهمية الثقافة والفن والفكر في صناعة مجتمع متلاحم، من حيث الوعي ومن حيث القيم، ومستوى العيش المادي.
لا ينتطح عنزان في محتوى المقال، ولكنه كان سيكتسب جرأة وتأثيرا أعمق لو وقف على عناصر الاختلال، تلك التي شانت للخيار الدمقراطي، وتلك التي أرست بنية موازية خلخلت الحقل الحزبي، وشوشت على بنية الدولة ذاتها، وتلك التي أضرت بالتوجه الليبرالي، قيميا (من حيث احترام الحريات الفردية والجماعية) واقتصاديا (من حيث المنافسة الشريفة، والنأي عن تضارب المصالح)، وتلك التي راهنت على الجوانب المادية وهزأت بالقَوام الفكري، وأحالته إلى تسلية، تغازل الجوانب الغريزية.
من المسؤول عن تردي الوضع الإعلامي؟ وهل يكفي أن نلقي باللائمة فقط على من يسترزقون بالبوز واليوتوبر؟ من المسؤول عن إخفاق التعليم، رغم البرامج المتعددة، والخطط المتوالية؟ من يحيل التعليم والصحة إلى سلعة؟ كل بناء جديد ينطلق من واجب جرد، ولا يمكن موضوعيا الاكتفاء بإلقاء اللائمة على الآخر. لا جدال أن المقال يركز على العقلانية كأسلوب عمل. هي لغة العصر. ولكن هل يمكن أن نبني بناء متين الأركان، شاهق البنيان، من دون قيم الجدية، أو مع سلوكات الإقصاء، وازدواجية الخطاب والفعل، ناهيك عن الافتراء. حينما نكون كلنا متهمين، (أو مسؤولين)، فتلك هي الديمقراطية، حسب جملة مأثورة لكامو .وهل يمكن لقاطرة أن تجر المقطورات، وهي سادرة في أبراج عاجية، ولغة مستغلقة، ونظام عيش خاص بها، ومقاربة تتأرجح ما بين التقني والأمني، لأنهما فعّالان، ومن دون ربط مع المقطورات .المقال نفسه يقر بأن ذلك ليس بكاف. والشيء العام، يُختزل في الأمني والتقني. وما عدا ذلك فللتأثيث أو أدوات .المغرب في مفترق طرق، وأمام تحديات كبرى، تفتح سوانح، مثلما تعترضه عراقيل ومناكفات .وهل يمكن للمغرب أن يستغني عن كافة أبنائه في هذا الرهان الصعب، والمشروع النبيل الذي يدعو له المقال/التقرير؟ وسكوتي عن قضايا عالقة لمواجهة التحديات، والبرء من التناقضات، بيان وخطاب، كما يقول المتبني.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير