غالبا ما نسمع في كثير من الأدبيات الحديث عن الإمبراطورية المغربية أو الإمبراطورية الشريفة كما نعثر عليها في مراسلات ومصنفات الاستعمار الفرنسي، أو كما يمكن أن نعثر عليها أيضا في كثير من الوثائق الرسمية، أو النقود، أو الطوابع البريدية. فأين اختفت الإمبراطورية المغربية أو الشريفة؟
في آخر مرة، تم فيها استعمال “الإمبراطورية الشريفة“ كان ذلك بعد الاستقلال مباشرة. ظهر ذلك في الجريدة الرسمية رقم 2352 لشهر نوفمبر 1957، وعُوِّضَ “بالمملكة المغربية“. ما الذي تغير حتى تم التنازل عن فكرة الإمبراطورية واستبدالها بالمملكة؟ هل لأن مساحة المغرب أصبحت أصغر من مساحة الإمبراطورية؟ لا أظن ذلك لأن مساحة اليابان أصغر من مساحة المغرب ومع ذلك فهي تسمى الإمبراطورية اليابانية. هل لم يعد الاسم يتلاءم مع العصر؟ هذه أيضا ليست حجة لأن اليابان وهي تحمل اسم إمبراطورية تعد من بين الدول الأكثر حداثة وديموقراطية في العالم. بل وأن بلدا أو حاكما إفريقيا سمى نفسه إمبراطورا في منتصف القرن العشرين مع أن البلاد التي كان يحكمها لا تتوفر على خصائص الإمبراطورية. وعلى الرغم من أن المغرب كان ولا يزال يتوفر على الخصائص الأربع للإمبراطورية فإن نظام الحكم تخلى عن هذه التسمية.
تتميز الإمبراطورية بأربعة خصائص:
1- اتساع مساحتها الجغرافية
2- تساكن عدد من المجموعات الإنسانية (قوميات، شعوب، دول واثنيات وثقافات مختلفة)
3- بنيات إدارية تجعل من كل هذه المجموعات تابعة للنظام المركزي نفسه
4- أيديولوجية حقيقة رسمية ومصرح بها ينخرط فيها الجميع برغبة منه أو بالقوة.
وبنظرة سريعة على هذه الخصائص، يتبين أن المغرب يتوفر على عدد كبير من المجموعات الإنسانية المرتبطة بثقافات متنوعة ولغات فريدة. فهل لم تكن له المقومات الأخرى؟ ألم يكن يتوفر على بنيات إدارية تجعل كل هذه المجموعات الإنسانية المختلفة الثقافة وأنماط العيش تخضع للنظام المركزي نفسه؟ ألم تكن له إيديولوجية حقيقية تنخرط فيها هذه المجموعات الإنسانية والتي كانت، أينما وجدت، تخطب في منابرها باسم السلطان المغربي؟
من الأكيد أن مفهوم المجال الجغرافي، والذي هو وليد العصور المتأخرة، لم يكن بالثبات الذي نعرفه اليوم وخصوصا في الدول الوطنية التي ترسم الحدود، وتسلم الساكنة بطائق هوية تجعلهم ينتسبون إلى بقعة جغرافية أكثر من أي شيء آخر. لكن الارتباط العقدي والروحي بالمغرب من طرف سكان العديد من دول إفريقيا جنوب الصحراء، وكذا من بقاع كل دول شمال إفريقيا إلى حدود برقة في بعض الأحيان كان يعطي للمغرب صفة الإمبراطورية، بل والإمبراطورية العظمى خصوصا عندما كان نفوذها يمتد إلى ما وراء البحر في أوربا.
وهذه القوة التي تأسست على ارتباط شعوب إفريقيا في الجنوب كما في الشمال بفاس ومراكش كحواضر علم وتصوف واستعداد الشعوب نفسها للدفاع عن الأرض (أرض الإسلام) هو ما كان يخيف الدول الأوربية التي انطلقت في المشاريع الاستعمارية منذ سقوط آخر إمارة في الأندلس وخروج المغاربة منها، أي بتاريخ 1492 والذي تزامن مع اكتشاف أمريكا. منذ ذلك الحين وإلى اليوم والمغرب يتعرض للقضم لتجريده من حلم الإمبراطورية. لا يهم اليوم إن كانت أوربا هي التي تحاول القضم أو تستعمل وكلاءها لكن المشروع لم يتوقف.
ففرنسا كانت عازمة على قضم المزيد من أراضي المغرب حيث كانت تخطط لمشروع الجزائر الأطلسية، بمعنى أن المشروع كان يقتضي أن يُعْزَلَ المغرب عن الصحراء الغربية بما أنها كانت مستعمرة إسبانية ورسْمِ حدود من تندوف إلى المحيط الأطلسي جنوب طانطان. كان الحديث يجري بدون مواربة عن عزل المغرب عن امتداده الإفريقي وتقزيمه لأن مخاوف الاستعمار الفرنسي كان جدية. لم تكن الجزائر دولة مستعمرة أو حماية كما كان الأمر بالنسبة للمغرب وتونس ولكنها كانت مقاطعة فرنسية ولم تكن فرنسا تعتزم مغادرتها. لكن الأمر تغير خصوصا عند اكتشاف البترول والغاز بالجزائر في خمسينات القرن العشرين. ومع تصاعد حركات التحرير الوطني في العالم، ارتأى الدهاء السياسي الفرنسي أن يتعامل مع الثوار من منطق المصلحة، وأن يسلمهم مقاليد الأمور ويحكمهم بمواثيق تضمن له استغلال الخيرات الجوفية للبلد. فسلمهم الأرض مع المشاريع التوسعية التي كان قد أنجزها سابقا ومنها مشروع الجزائر الأطلسية.
في هذا المخطط يندرج المشروع الانفصالي الذي تقوم عليه الجزائر والذي ينفذه عدد من الجنرالات الذين خدموا في الجيش الفرنسي. ومنذ ذلك الحين، والعمل جار على تقويض فكرة الإمبراطورية على جميع المستويات، لأن ما تبقى للمغرب من إمبراطوريته هو الغنى الثقافي والفكري الذي نسجته الأجيال على فترات تاريخية طويلة. وحتى هذا الجانب الروحي والثقافي يبحث المشروع الفرنسي القديم عن قضم أجزاء منه.
الإمبراطورية المغربية ليست فقط أرضا أو فضاء رمزيا وإنما هي أيضا ثقافة وفكر بنته الشعوب التي كانت تحج إلى هذه الأرض على امتدادها من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير