لاحظ بعض المعلقين دور “الجمهور” في رحيل بعض وزراء الحكومة الحالية بمناسبة تعديلها الأخير. ربما يكون الأمر كذلك فعلا، وربما يكون الحديث عن دور الجمهور في هذه الأحداث السياسية مبالغا فيه. أياما قليلة بعد ذلك برز دور الجمهور مجددا في قرار تعسفي بمنع عرض فيلم سينمائي أثار سخط الجهور، وإن كان الفيلم لم يعرض بعد! لكن لا صوت يعلو فوق صوت الجمهور، خاصة إن ظهر سخطه العارم في فضاءات الاتصال الافتراضي على الأنترنت.
بقدر ما يظهر تأثير الجمهور بناء في الحالة الأولى بقدر ما يثير هيجانه في الحالة الثانية، الاستغراب والقلق. لكن هذه هي طبيعة الجمهور في المجتمعات “الأمية”، المشدودة لتربية الأم الأولية، بتعبير المؤرخ عبد الله العروي، في “ديوان السياسة”. حيث تحدد الغرائز السلوكات والأفكار. يقع الرهان على النخبة، أو “القلة” بتعبير الكاتب، لتهذيب غرائز الجمهور وفطامه عن الأمية. ليس القصد أن الجمهور على خطأ بالفطرة، والنخبة على صواب بالضرورة، أو أن لا حق للجمهور في المشاركة السياسية. بل المشكلة، تحديدا، في أن يشارك الجمهور في السياسة وتعزف عنها النخبة.
الوضع الطبيعي أن تصدر المبادرة السياسية عن النخبة، فتجتهد لإقناع الجمهور وتعبئته للمشاركة. وإن جاءت المبادرة من الجمهور، تتحمل النخبة مسؤوليتها في عقلنتها، فتصوغ كل فئة من فئات النخبة تصورها للمصلحة العامة، ويقع اختيار الصيغة الأفضل وفقا لميزان القوى السياسي، ولكن أيضا للحد الأدنى من العقل والمنطق.
ظل الوضع طبيعيا في بلادنا منذ ثلاثينات القرن الماضي، على الأقل، حين برزت نخبة من المغاربة تطالب بإصلاح نظام الحماية بما يضمن بعض حقوق المغاربة، لتتصدر النخبة منذ تلك الفترة جميع معارك التقدم، مع الجمهور، وليس خلفه. أين اختفت النخبة؟ كيف ضاعت في بضع عقود؟ ربما أن للقمع العنيف خلال سنوات الرصاص، والقمع الناعم بعد سنوات الرصاص، دورا أساسيا في عزوف النخبة عن العمل السياسي. النتيجة أن الجمهور اليوم يجد نفسه في مواجهة أصحاب القرار وجها لوجه. تظهر جل النقاشات العمومية مفارقة للمنطق بعيدة عن العقلانية مثيرة للدهشة. يواجه المقررون غرائز الجمهور إما بالقمع أو بالمسايرة، ولو على حساب المصلحة العامة والحقوق والحريات، إذ الهدف الوحيد هو اتقاء شر غضب الجمهور. لكن هذه لعبة خطرة، فالجمهور لا يتعقل من تلقاء نفسه، ومسايرته مكلفة، كما قمعه.
إسماعيل بلاوعلي