لعلها لعنة سيزيف تلازمنا فتطبع المشهد السياسي في بلادنا. تُرفع الصخرة إلى أن تبلغ قمة الجبل، فما تلبث أن تتدحرج بعدها إلى أسفل، لتُعاد الكَرّة ثانية، وتُطرح ذات الإشكالات، وذات التساؤلات كأن لم تُطرح من ذي قبل؟
من يقرأ حديثا لواحد من مهندسي البام، السيد حسن بنعدي، وممن انثنوا بخيبة من المسار الذي اتخذه هذا الحزب، مما دفعه إلى أن يرسم مسافة معه، يستحضر هذه اللعنة، وهذا العوْدُ على بَدْء الذي يتحكم فينا.
ماذا يقول بنعدي؟ البام جواب تكتيكي على أسئلة عديدة مرحلية، ومنها محاولة التصدي لـ«التسونامي الإسلامي» (كذا). ولكن التجربة التي يعرف بنعدي دقائقها، لم تستطع أن تزيح شبح العزوف، وهو من العوامل الحاسمة، بعد ما اعترى انتخابات شتنبر 2007 من إعراض، التي دفعت إلى التفكير في إطار بديل. شبح النفور ما يزال ماثلا، مثلما يقول السيد بنعدي: «ولكن أخطر شيء هو عودة العزوف عن العملية السياسية بناء على مؤشرات التسجيل في اللوائح الانتخابية حيث يُطرح نفس السؤال: ما العمل؟».
يخلص بنعدي، عن صواب في تقديري، إلى أن جوهر قضايانا لا يكمن فيما يسمى بالهندسة الدستورية ولا اللعبة الديمقراطية ولا التقنيات الانتخابية ولا أدوات التواصل، بل إلى شيء بسيط نتفق جميعنا على الإشارة إليه دون تحديد طبيعته، هي الثقافة الديمقراطية، مما يستلزم ثورة ثقافية تضطلع بها الصفوة. الطبيعة الثقافية لقضايانا، ولم يخلص بعدُ اتجاه سياسي، عدا بعض فعاليات المجتمع المدني وبعض المثقفين، إلى هذا التمثل، هي لب معضلتنا. والمعضل، لغةً، وقد تم الاستئناس عندنا بالإيحاءات الجنسية في الخطاب السياسي، هو الوليد حين يغص في فرج أمه، فلا هو في بطنها لم يولد، ولا هو انعتق منها.
أهل البام أدرى بشعابه، ولا أود هنا الخوض في وهاده، مما سبق أن فصّلت فيه القول في محاضرة بالجامعة الصيفية لـ«كابديما» بتاريخ 12 يوليوز 2012، ولكني ما أزال وفيا لما كنت أعبر عنه قبل أكثر من خمس سنوات، وهي أن البام فكرة جيدة تم التعبير عنها بطريقة سيئة. لا يمكن إنكار مواطن قوى البام. ليست مما كان يدعو له السيد الشيخ بيد الله، من أن للبام جاذبية. جاذبية البام، هي من جاذبية السلطة، أو سلطتها الليبدية (أي إغراء يكاد يكون جنسيا). موطن قواه، هو عناصر لها رصيد نضالي ومصداقية. هو نظرة حداثية في قضايا متشعبة طرحها مناضلون ومناضلات بعمق وجرأة قبل أن يذوبوا في أتون البام. هي معرفية تقنية لبعض من خيرة تقنوقراطيينا. هي خيارات وحدوية واعية ومسؤولة تنبي على شرعية.
من حق المحلل أن يطرح السؤال، ألم يتضرر هذا الرصيد من خلال ممارسات علقت بالبام، ومنها كيفية طبخ مكاتب المجلس الجماعي لوجدة في الانتخابات المحلية ليونيو 2009، ولطنجة، وكيف تم التعامل مع ممثل الإدارة الترابية بمراكش، جراء خطأ، نعم خطأ، ولكنه ليس بالخطأ الجسيم، وكيف تعامل ممثل الإدارة الترابية بالحسيمة مع انتخاب مجلس الجهة، وكيف تم انتخاب عمدة جديد لطنجة ليس بوكيل للائحة، رغما عن منطوق الميثاق الجماعي الجديد وروحه، ومنها وسائل الترهيب والترغيب التي علقت بعراب البام وسارت بذكرها الركبان كما يقال، حتى أضحينا نعيش وضعا شبيها بذلك الذي تسميه تركيا بالبنية الموازية.
يستطيع البام دوما أن يكون ماكينة انتخابية، ويستعملَ من أجل ذلك محترفي الانتخابات، ويستطيع أن يوظف السلوك المستشري في ثقافتنا السياسية، «لله ينصر من يصبح»، ولكن ذلك لن يجعله جزءا من الحل، بل على العكس، سيرسخ وُلوغنا في المشكل، وفيما صاحب المسار السياسي، بإحداث أحزاب، قبيل الانتخابات، من صنع السلطة. ولن يمنع ذلك الصخرة من التدحرج ثانية لنعود لربما إلى محاولة تلمس حل، قد لا يكون هذه المرة، مثلما قال السيد بنعدي تكتيكيا، بل استراتيجيا.
من المؤكد أن الدولة قامت بإشارات لترسم مسافة مع البام حتى لا يخالط الريب الفاعلين والمهتمين، من شجب الترحال السياسي وتضمينه في نص الدستور (لمحو التأويل المتعسف للفصل 5 من قانون الأحزاب)، ومنها طلب إعفاء زعيم الحزب، السيد فؤاد على الهمة، من أية مسؤولية بداخل البام. هل أقدم الحزب على ذات التمرين، وذات الجهد؟ أطرح السؤال، وليس لي جواب، لأن الجواب بيد البام، وأهله وذويه.
ماذا لو كان العزوف قدر الانتخابات المقبلة؟ وما الذي يدفع للعزوف؟ ليس بالتأكيد نقص في التواصل، والدليل على أن التجييش الذي عرفه سياق ما قبل انتخابات 2007، وحركة دابا، والوصلات الإعلامية، والإهابة من قبل كبار المسؤولين بالتصويت، كل ذلك لم يمنع من العزوف، لأن الجماهير لم تعد تؤمن بالفعل السياسي، أو بفعل سياسي تراه رجعا لشيء اعتادته ونفرت منه، متحكم في شأنه، بأشكال عدة.
تعرف جارتنا الشمالية حركة عميقة تطرح أسئلة جوهرية متمثلة في حركة بوديموس، «نحن قادرون»، من خلال تطهير الفعل السياسي من الطائفية، وطرحه قضايا العدالة الاجتماعية وفق قوالب جديدة، والتركيز على العمق الثقافي، من خلال توظيف تحليل كرامشي. حركة جعلت الحصان قبل العربة، أو الفكر سابقا على الفعل، ليس ماعرفنا من حراك أفضى إلى ما نعرف، لأننا جعلنا العربة سابقة على الحصان.
الرأي قبل شجاعة الشجعان. لو تمثلنا ذلك حق التمثل، وطرحنا الأسئلة الصائبة لاستطعنا لربما أن نقول نحن كذلك: Podemos, tambien.
«وفي ذلك فَلْيتنافسِ المُتنافسون» (قرآن كريم).
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير