أصدر الروائي الجزائري واسيني الأعرج، قبل عقد من الزمن، روايته «كتاب الأمير: مسالك أبواب الحديد». وهي رواية تماهى فيها السرد الروائي بالسرد التاريخي، واختار الناشر تنبيه القارئ إلى أنها «لا تقول التاريخ لأنه ليس هاجسها، ولا تتقصّى الحوادث والوقائع لاختبارها، فليس ذلك من مهامها الأساسية. تستند فقط على المادة التاريخية، وتدفع بها إلى قول ما لا يستطيع التاريخ قوله». وتفاعل النقاد المغاربة مع هذه التجربة الروائية بشكل ايجابي منتج، فيما يشبه الاحتفاء. بعد عشر سنوات على هذا الإصدار قدم المخرج المغربي محمد اليونسي، ضمن فعليات المهرجان الوطني للفيلم بمدينة طنجة، يوم 21 فبراير الماضي فيلمه «الوشاح الأحمر». وسارعت إحدى الصحف الجزائرية إلى مهاجمة الفيلم، قبل أكثر من شهر على عرضه، إذ رأت أنه «يبالغ في تضخيم الواقع في البلاد سنوات الستينات من القرن الماضي، كما يحاول تمرير رسالة منّ لمساعدة المغرب للجزائر في حربها مع المستعمر الفرنسي، من خلال قصة زوجين، «لويزة من الجزائر ولحبيب من المغرب»، فرقتهما الظروف بالجزائر، وعاشا بعيدين عن بعضهما ما تبقى لهما من حياتهما». الرواية كما السينما، أولا وقبل كل شيء عمل إبداعي، يَفترض في الكاتب أو المخرج استثمار عبقريته الإبداعية وطاقاته التعبيرية، وتوظيف المتخيل والحس الفني والجمالي لتقديم منتوج يليق بهوية العمل المنجز، سواء كان متنا مكتوبا يمتد على صفحات في شكل رواية، أو لوحة جدارية كبيرة تشد المشاهد إليها بعضا من الوقت في قالب فلمي. تغذت الرواية، شأنها في ذلك شأن السينما، من التاريخ ووقائعه وأحداثه، وطرح سؤال الاطمئنان إلى ما يقدم إبداعيا من وقائع وأحداث تاريخية. وكان والتر سكوت (1771- 1832) ماهرا في صناعة الرواية التاريخية الأوربية، وعلى نفس منواله، حاول جورجي زيدان النسج ولو في سياق مغاير. وظهر بعده روائيون عرب أبدعوا في التعامل مع المصادر والوثائق التاريخية، واستلهام واستبطان مكنوناتها، قبل تصريفها في وعاء أدبي ممتع إبداعيا وجماليا، مع الحرص، قدر المستطاع على تفادي توظيف التاريخ لتصريف موقف ما تحت عباءة الحكي الروائي أو التخييل الفني.
هذا الهاجس في المعالجة يفترض التعالي عن لغة التحامل وعدم التعامل، عن قصد أو تقصير، بانتقائية مع المصادر والوثائق التاريخية المعتمدة. ولا نعتقد أن من استعمل صفة قدحية «العَكُّون» عند حديثه عن الأمير محمد بن عبد الرحمان، و بحث عن تفسير لأسباب فشل المقاومة الجزائرية عند الجار وليس داخل الدار كان موفقا في ارتداء عباءة الروائي تحت بُرنُس المؤرخ.
تلتقي السينما والرواية والتاريخ عند «تيمة» المجتمعات، وتختلف أشكال التناول والمعالجة باختلاف آليات اشتغال كل حقل من هذه الحقول، وقد تشكل الرواية التاريخية الحلقة الوسطى، في حالة التقاطع، فيكون الفيلم التاريخي تعبيرا وتجسيدا بصريا لها. وبين رواية واسيني الأعرج وفيلم محمد اليونسي ما يجمع أكثر مما يفرق رغم أن «الوشاح الأحمر» لا يمتح من نص «كتاب الأمير: مسالك أبواب الحديد»، وتبتعد قصتا الرواية والفيلم زمانيا بما يزيد عن قرن من الزمن. حضرت في العملين معا رغبة ملحة لاقتحام عتمات التاريخ، وتسليط الضوء عليها، فتحول الماضي إلى حاضر إبداعي جديد. هذه الجوانب المعتمة من التاريخ المشترك دشنتها، في الفترة المعاصرة، بيعة أهل تلمسان لسلطان المغرب، عبد الرحمان بن هشام، إثر احتلال الجزائر، وزكتها معاهدة لالة مغنية بعد هزيمة إيسلي، وخاصة البندين الخامس والسادس من هذه المعاهدة، زمن الانتقال الملتبس من مفهوم الأمة إلى مفهوم الوطن. وأضفى عليها قرار إلحاق الجزائر بفرنسا سنة 1834 واعتبارها مقاطعة فرنسية عام 1848 تعقيدا أكبر، إذ أشر على رغبة فرنسا في التمدد شرقا وغربا، بقضم أجزاء من تراب البلدين الخاضعين لحمايتها، أي المغرب وتونس، لفائدة أرض اعتبرتها جزء من جمهوريتها الثانية. وبعد حصول المغرب على استقلاله سارعت فرنسا إلى عرض صفقة رسم الحدود مقابل التخلي عن دعم الثورة الجزائرية، فقوبل مسعاها بالرفض المطلق من طرف السلطان محمد بن يوسف، وأقر لاحقا رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، فرحات عباس، في صيف سنة 1961، بوجود مشكل في الحدود الموروثة عن الاستعمار، ووافق على تشكيل لجنة مشتركة لإعادة النظر فيها، ثم ما لبث أن تملص أحمد بن بلة من هذه الوعود، وساد الاحتقان الذي قاد إلى المواجهة سنة 1963 فيما عرف بحرب الرمال.
هذا المسار من التشنج والوضع النشاز، الذي لعب فيه الاستعمار الفرنسي دور صانع الألعاب، لم يكن فيه الدعم المتبادل زمن المقاومة منة ولا صدقة، سواء مع إرسال السلطان عبد الرحمان بن هشام كتيبة عسكرية يرأسها ابن عمه علي بن سليمان لدعم سكان تلمسان، وما أعقبها من تداعيات، أو مع تشكيل لجنة تنسيق جيش تحرير المغرب العربي، وما تلاها من عمل مشترك، بل كان دعما عفويا، يحتكم للوجدان قبل احتكامه للعقل. والعودة إلى استحضار هذا التاريخ بنفس فني في أعمال إبداعية شيء إيجابي ومطلوب، خاصة إذا كانت مستشرفة لأفق تضميد الجراح، مستفيدة من الدرس الأوربي بعد الحربين العالميتين، متطلعة لبناء غد مغاربي مشترك، كما أنهى بذلك محمد اليونسي فيلمه، الذي انتصر للإبداع، وللإنسان ومعاناته وقيمه النبيلة، أكثر من انتصاره لتأويل معين للتاريخ.
الطيب بياض
مستشار علمي بهيئة التحرير