لمصر في وجدان المغاربة مكانة خاصة، تعود إلى عهود قديمة. فالملك يوبا الثاني تزوج من كليوباترا السلينية، ومؤرخ دولة الموحدين عبد الواحد المراكشي، يرى أن لا شيء يظهر في مصر إلا كان له امتداد في المغرب. ألقى بها مغاربة كُثْرٌ عصا ترحالهم، و تواترت هجراتهم إلى أرض الكنانة، فانغمروا فيها، وأصبحوا جزءا من نسيجها، من هم العلماء ومن الأولياء، ومنهم رجال الدولة ومنهم التجار، ومنهم مَن هم دون ذلك. كانوا طرائق قددا. حملت الأزهر ميسم العبقرية المغربية، بمعناه العام، وكان بها وما يزال رواق المغاربة، واحتضنت جنباتها سِجالات الفقهاء من أصول مغاربة ومناظرات العلماء وفذلكات النحويين، وهم أكثر من أن يحصيهم مجال.
في العصور الحديثة هفت قلوب المغاربة إلى مصر، ورأوا فيها منارة اجتمع فيها ما يرومون من تحديث، وما يريدون أن يستمسكوا به من أصالة. أنِفوا من تحديث يأتي من قوة استعمارية، فاشرأبوا إلى مظاهر تمدن مصر، واغترفوا منها اغتراف الظامئ الغرثان. اكتتبوا في الرسالة، وتوزعوا بين معجب بالعقاد، وهائم بطه حسين. أنشدوا أشعار أساطينها، وترنموا بأغاني صناجاتها. أحبوا مسرحها، وشغفوا بسينماها، وتتلمذوا على فقيهها السنهوري. وحينما حل شاعر مراكش ابن براهيم بمصر، قال بيتا يُغني عن كل تعبير :
نصف شهر مر في مصر
وعمري نصف شهر.
وكان حلول فرقة المسرحية فاطمة رشدي في الأربعينات حدثا، خلده الشاعر القباج المعروف بالشاعر المطبوع بقوله :
أفاطمَ رشدي قد سلبت رشدي
بادلت مصر حب المغاربة لها بحب. حمل مثقفوها شجون مراكش ـوبذلك كان يعرف المغرب آنذاكـ وشؤونه، وعلى رأسهم العقاد، مثلما حكى المرحوم الأديب النِّحرير، ورجل الدولة الكبير الحاج امحمد باحنيني، وهو في عودته من الحج، حيث التقى به في مقهي كروبي، فحدثه عن أحوال المغرب، وما أن عاد الأديب المغربي إلى الوطن، حتى كانت الصحافة المصرية تندد بالمضايقات التي يتعرض لها السلطان سيدي محمد بن يوسف من قِبل الإدارة الاستعمارية، وأوفد عزام باشا أول أمين عام للجامعة العربية فريقا ليقف على شطط الإدارة الاستعمارية، ونشرت الأهرام تغطيات مستفيضة عن أحوال مراكش. واحتضنت القاهرة القادة الوطنيين من البلاد المغربية، ومنها أطلق الزعيم علال الفاسي نداءه ضد قرار السلطة الاستعمارية عزل السلطان. وتماهى فريق من شباب الحركة الوطنية مع حركة الضباط الأحرار، وجعلوا من جمال عبد الناصر رمزا لهم، وكان «صوت العرب» ينفذ في نفوس المغاربة ويشحذ هممهم، واختار بعض منهم لأبنائهم اسم عبد الناصر ولم يكن مألوفا بالمغرب. لم ينس المغاربة، ولن يسنوا موقف مصر الشهم أنْ كانت لهم درئا وملاذا في عهد الاستعمار. وحينما زار طه المغرب في 1957، كان مما قال له الملك محمد الخامس، رحمه الله، إن المغرب لن ينسى الموقف «ديال مصر»، ولم يفهم طه حسين معنى ديال، وتندر بها طويلا.
هزيمة 67 كانت هزيمة المغاربة، وعبورهم في 1973 كان عبورهم.
هي قصة حب أعمق من أن يسعها مقال. هي قصة حب تجعل مصر بلدا ثانيا للمغاربة، أيا كانت مشاربهم. يحن إليها العروبيون، الذين استنسخوا حزب الاتحاد الاشتراكي العربي. تهفو إليها قلوب الإسلاميين، لأنهم حضن الأزهر الشريف، ومنارة الإسلام السني، وقد يرون فيها مَعينا لرؤاهم السياسية، وتشرئب لها أذهان الأمازيغ إذ تذكرهم بالوشائج العريقة بين الأمازيغ والفراعنة، مما يشهد عليه تقارب اللغة المصرية القديمة والأمازيغية، لكي لا يرون في سيوة ومعبد أمون بها، سوى واحة، بل رمزا لذاكرة مشتركة، ويذكرون بعرفان ما قدّمه البحاثة مقصود عبد المسيح في حفظ الأمازيغية وتدرسيها وفتح أول كرسي لها بجامعة ميشغن.
ازدهى المغاربة وهم يرون مصر تنتفض دفعا للزيف، ومعانقة للكرامة.
توزعوا بعدها، كما قد يتوزعون حول قضاياهم، ولكنه في توزعهم يلتقون حول شيء، حبهم لمصر، وتقديرهم لمصر، وأملهم في أن تنجح مصر. نجاح مصر هو نجاحهم، ونجاح مصر، من ارتباطها بعمقها الاستراتيجي، مثلما قال مفكرها الفذ جمال حمدان. والمغرب امتداد للعمق الاستراتيجي لمصر.
لرئيس مصر أن يزور من البلاد ما شاء، ولصحافتها أن تحاور من تشاء، ولكن لا يسوغ أبدا أن يَْبدُر من ذوي الرأي، ولا من أصحاب رؤوس المال، الزراية بمن يضمر الحب لمصر، والتقدير لمصر. لا يحق ذلك من شعب عريق، ينضح بالدماثة، و يفيض بالخلق الكريم.
المغاربة يحبونكم أيها المصريون، ويرددون قول شاعركم الفجومي رحمة لله عليه :
مصر عروسة، وبكرة عريس
والعشاق، إحنا العشاق.
فهل ترضون الإساءة لمن يحبكم؟
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير