مجلة «زمان» ليست جزءا من الحقل الإعلامي المغربي فقط، بل أيضا الوسيط بين الماضي والحاضر. تُسائل الذاكرة الجماعية للمغاربة لتستخلص منها، بمعية المؤرخين المغاربة وأدواتهم المنهجية، عناصر تاريخ يرسخ الأبعاد الإنسانية والحضارية للمغاربة، كل المغاربة.
نعم إن الهاجس الأكاديمي لا يصرفنا عن القضايا التي تطفو على صفحة الحقل السياسي المغربي، أو تعتمل في المجتمع. نسعى أن ننكب عليها ونرصد الاتجاهات العميقة، دونما الزعم بامتلاكنا للحقيقة، ولذلك في سعينا للتحليل رغم تسلحنا بالأدوات العلمية، نعترف بقصورنا وندعو دوما للتمسك بفضائل التواضع والنسبية والحوار. في سعينا للفهم نهدف للموضوعية ونتجنب، في نفس الآن، المحاباة والتحامل، محترمين مؤسسات البلاد، كما أننا ندرك أن للفعل السياسي أدواته وإطاراته، ولكن في ذات الوقت لا يمكن أن نفصل الفعل السياسي عن تمرين التفكير ومقارعة الرأي والمرجعية الثقافية والعمق التاريخي، كما لا يمكن للبحث العلمي أن يدير ظهره للقضايا التي تستأثر باهتمام المجتمع. من العبث القول بأننا لا مبالون عما يتوزع المجتمع المغربي وقضاياه المصيرية. ما نقدمه من تفكير وتنقيب و فضاء للحوار هو مساهمة ليس إلا. ليست حقيقة مطلقة، ولا أمرا نمليه، ولا موقفا سياسيا. صفحاتنا مفتوحة لكل توجهات الرأي التي يزخر بها وطننا وبالرغم من اختلافنا مع بعضها، فتعميمها دعم للمغرب الديمقراطي الذي ننشده. نأتمُّ بفضائل الحوار، وباحترام المؤسسات وبالانصياع للقانون. لدينا طموح، نعتبره مشروعا، هو الارتقاء بمجتمعنا، وببلادنا، وبالانتقال السلس نحو إطار ديمقراطي حديث، بالحوار، وبالإصلاح، بالتي هي أحسن، في ظل المؤسسات القائمة. نشجب العنف، والتحامل، والتخوين والتكفير، ونرفض العبث بمصير شعبنا من خلال الخطابات الشعبوية أو التلويح بالمغامرة.
نعتبر قضية الصحراء مصيرية، ونُكْبر نضالات الحركة الوطنية، ونكبر ما قامت به المؤسسة الملكية في هذا الصدد، وما قدمه شعبنا من تضحيات في سبيل الوحدة، من مختلف الشرائح، ومختلف الهيئات والقوى والمؤسسات. لا نعتبر، ولا يمكن أن نعتبر، أن المغرب فقد روحه، حينما انغمر في استكمال وحدته الترابية. قول مثل هذا مجاف للحقيقة التاريخية، ومستهتر بمقاومة الحركة الوطنية، وتعرضها لهجمة شرسة في إيكوفيان، ومضر بالمصلحة الاستراتيجية للمغرب. نؤمن أن مصدر قوتنا في قضية الصحراء، هو تضحيات شعبنا، والتحام مكوناته، وندرك أن ذلك ما يزعج دعاة الانفصال الذين يسعون لإضعاف الإجماع المغربي، بدءا بتحييد بعض المثقفين. إيماننا بمشروعية نضال الشعب المغربي لا يعني ألا نتفكر في قضايا تدبير الملف، والحوار مع الفعاليات كلها، حتى التي نختلف مع طرحها.
نتحدث عن «مغربنا» و«صحرائنا» بضمير الجمع. ولنون الجماعة هذه تاريخ، هو تاريخ تشكل الكيان المغربي العريق، بعلائقه الاجتماعية، ونظامه السياسي وثقافته، ومركبه اللساني، وأنماط عيشه، ومخياله الجماعي. الكيان المغربي حصيلة دينامية لجدل الإنسان والتراب. حصيلة تاريخية تبلور وسطها الوطن وحدوده الثقافية والجغرافية. قد يطمح الوطن إلى الانخراط في كيانات أوسع، إلا أنه عندما يتعرض لمحاولات تقزيم، فمن الطبيعي أن ينتفض ضد كل ما يتهدده من أخطار. الوطن المغربي حصيلة تاريخية لتفاعلات متنوعة في المدى الطويل. وارتباط المغاربة بالصحراء، كفضاء ثقافي وإنساني وترابي، ارتباط استراتيجي. والقول بـ»صحرائنا» هو تعبير عن هذا العمق التاريخي. تعبير عن وعي بالذات العميقة.
نون الجماعة هذا لا يعبر عن روح شوفينية، ولا أطماع توسعية، ولا طموحات هيمنة، ولا حتى عن غرائز إقطاعية واستعبادية. نون الجماعة هذا تعبير عن انتماء واعتزاز بمشترك تبلور ببطء عبر قرون عديدة بمجهودات وتضحيات أجيال متلاحقة. صحيح أن هذا المشترك قابل للتطور والتلاقح… نحو، ومع، الفضاءات المغاربية والعربية والإفريقية والأوربية، إلا أن طريق ذلك ليس لا التفتيت، ولا الانشطار ولا البتر… فكلها عمليات تستهدف قتل الذات، وليس إعادة الروح لها. فهي مرفوضة أصلا. لقد عبر المغاربة العقلاء، ومنذ أن اندلع نزاع الصحراء الغربية المغربية، عن أملهم في أن «تكون الصحراء قنطرة وصل في الفضاء المغاربي، وليس منطقة فصل». كما صرح المغرب الرسمي بمؤسساته الحكومية والدستورية أن رغبته هي أن «تصبح الصحراء فضاء مشتركا للإنتاج، وليس ميدانا مشحونا بالنزاع».
أما المغرب العميق، بنسائه ورجاله، بأحزابه السياسية وجمعياته المدنية، فقد أهاب ببناتنا وأبنائنا في الصحراء الغربية المغربية أن لا ينساقوا وراء الحلول السهلة لما يعتبرونه «حيفا وتمييزا» وإقصاء لبعضهم. فالرد على التجاوزات ليس الانفصال، بل ترسيخ رابطة القانون وتمتين عود الوطن بتطويره إلى وطن للجميع، لا إلى تدميره. فالمستقبل، في عصر العولمة، ليس للكيانات الصغيرة بل للتكتلات الكبرى. فالمستقبل المشترك لكل شعوب المنطقة هو «المغرب الكبير». والطريق إليه يتم حتما عبر مغرب قوي بهويته المتعددة الأبعاد، وشعبه المتسامح ومؤسساته العريقة الطامحة للخلود على قاعدة ثقافة حقوق الإنسان وحقوق المواطنة.
يعلمنا التاريخ الإنساني أن المجتمعات وتعبيراتها السياسية نتاج لسيرورات عميقة يلعب فيها الإنسان، بإرادته وفعله، دورا محوريا. والشعوب التي توفقت في صهر جهود مكوناتها في فعل مشترك، تركت بصماتها في المسيرة الحضارية للإنسانية.
ما نريده لبلدنا ووطننا هو أن ننخرط في هذا الفعل الإنساني العميق. وشرط ذلك الحفاظ على كياننا وتطويره من داخله بـ«التي هي أحسن». فمغربنا وصحراؤنا متلازمان مرتبطان عضويا. والدفاع عنهما دفاع واحد. وهو بمثابة «فرض عين» على كل المواطنين. كل من موقعه وبأدواته. في هذا الدفاع العام، من أجل الوطن الآن وغدا، يتبوأ المثقفون مكانة رفيعة. فهم المسلحون بآليات الفكر النقدي وأدوات المنهج العلمي. كما أنهم المبلورون للموقف المتبصر، والمدركون لأبعاد المناورات السياسية والخطابات السياسوية، فعليهم تقع مسؤولية كبرى. فبالرغم من أنهم «المواطنون الأحرار في الكون»، فهم قبل ذلك أبناء وبنات «الوطن الأم»، عليهم اتجاهه واجبات على رأسها درء الأخطار عنه. لا نتماهى مع من يستعمل وضعه كمثقف، أو أي وضع اعتباري لينال من تضحيات الشعب المغربي ومؤسساته، في قضية الصحراء.
لقد انخرط المغرب، كشعب ووطن ومؤسسات، منذ ما يفوق العقدين من الزمن، في سيرورة انتقال نحو مجتمع حداثي ومتضامن، مجتمع ديمقراطي وعادل. ركائزه دولة الحق والقانون، وسيادة ثقافة المواطنة وحقوق الإنسان. صحيح أن هذه المسيرة لم تكتمل بعد، ومن الطبيعي أن لا يكون مسارها خطا مستقيما. فمسالكها وعرة، وتحتاج لعبورها إلى تضافر مجهودات كل الغيورين على الوطن. لا يمكن بحال من الأحوال أن نكون عدميين أو رومانسيين أو دعاة مغامرة.
لذلك، ترى «زمان»، وهي المصاحبة عن وعي لمسيرة الانتقال، أن للوطن على أبنائه وبناته، وخصوصا المثقفين منهم، حق التوعية من مخاطر التموقع ضد الوطن واستقراره، بدعوى تباطؤ الانتقال الديمقراطي إلى المواطنة وحقوق الإنسان. فالمثقفون، والمؤرخون جزء لا يتجزأ منهم، هم حملة الفكر المستنير، وهم الأوعى من غيرهم لإدراك عمق المقولة القائلة بأن «التاريخ يتطور في عمقه ببطء، وبالتوافقات البشرية، أكثر مما يتطور بالثورات».
يوسف شميرو
مدير النشر والتحرير