ليتها تعود. ففي ذلك الوقت وفي عام 2017 بالضبط قبل عشر سنوات من الآن، قضينا شهر رمضان بالكامل نتظاهر في الليل، ونمضي أوقاتا رائعة مع القوات العمومية.
وفي كل يوم، كان رجال الأمن يقبضون على مجموعة منا، ويزجون بهم في سجون المملكة، وكانت أسرنا تسافر في الحافلات والتاكسيات الكبيرة إلى الدار البيضاء لزيارة أبنائها، وهي صائمة وممتنة وسعيدة ومتمتعة بجمال الطبيعة، حيث ما زال الناس يحكون إلى غاية هذه اللحظة، كيف كانوا يتغلبون على العطش ولا يشعرون بجوع، وهم ينهبون الطريق الطويلة والملتوية جيئة وذهابا.
كما يؤكد أكثر من شخص، من الذين عايشوا تلك الأحداث، أنه كان شهر صيام لا ينسى وكلما تذكروه ينتابهم حنين جارف. أما حين حل عيد الفطر، وخرجنا للاحتجاج، باركت لنا السلطة وهنأتنا وأشبعتنا ضربا مبرحا وأدمتنا وركلتنا وعنفتنا وتركت أثرا لا ينسى. ورغم ذلك، وجدنا الوقت لنمنح دريهمات العيد للأطفال الذين ارتدوا ملابسهم الجديدة وملأوا جيوبهم بالحلوى، ثم خرجوا يتجولون في شوارع الحسيمة يتفرجون على أشقائهم الكبار ساقطين أرضا، وهم يلعبون لعبة مسلية مع رجال الأمن والقوات المساعدة، ويهربون فتسقط عناصر من الفريقين، وتنتشر صور الضحايا من الجانبين في الفضاء الأزرق ليشتد التشويق وتزداد المتعة والاتهامات المتبادلة.
لقد كانت أياما رائعة فعلا. زارنا فيها أكبر قدر من السياح في تاريخ الحسيمة، ومعظمهم كان من القوات العمومية، فانتعشت المدينة وامتلأت فنادقها، حتى إن رجال الدرك كانوا يستقبلون الضيوف في مداخلها، وبلباقة يخبرونهم أن الغرف ممتلئة عن آخرها، وينصحونهم بأدب أن من مصلحتهم أن يعودوا أدراجهم من حيث أتوا.
وما زال رجال الأمن يحكون، إلى غاية اليوم، عن مقامهم الطيب في الحسيمة ويتذكرون الأشهر الطويلة التي قضوها فيها، فيمنون النفس بأن تتكرر التجربة وتتاح لهم فرصة أخرى لزيارتها وضبط الأمن فيها وفض تجمعات ومظاهرات سكانها.
ومن جهتهم، كان السكان يرسلون الرسائل ويقدمون الطلبات إلى السلطة المركزية في الرباط، ويستجدونها كي تمدد إقامتهم وترسل تعزيزات إضافية إلى المدينة، لينعشوا الاقتصاد وليضربوهم ويقمعوهم حين يلزم الأمر ذلك. ومن أجل هذا الهدف، ظللنا نتظاهر ونخرج يوميا في المسيرات، وحين شعرنا باقتراب الحل وبوجود وساطات وتدخلات من كثير من الجهات، وخوفا من أن تنتهي تلك الفترة الزاهية، اخترعنا طريقة ذكية للاحتجاج فصعدنا إلى أسطح البيوت، ثم طفقنا نقرع الأواني حتى لا ينصرف أحد، وحتى لا ينسحب أي رجل أمن فيبقى سكان الحسيمة لوحدهم، ويعودوا مضطرين إلى حياتهم المملة والرتيبة. كما نتذكر تلك الفترة الذهبية كأنها اليوم، ونتذكر أكثر موقف الحكومة الحكيم التي لم تحرك ساكنا، ولم تتدخل ولم تبد موقفا ولم يظهر لها أثر، كي لا تفسد الجو ولا تعكر صفو الحراك الممتع، وكي لا يحسب عليها أنها وقفت ضد استمراره، فيسجل عليها ذلك ويلومها سكان الحسيمة وتغضب منها وزارة الداخلية.
لقد كان هناك ما يشبه اتفاقا ضمنيا وغير موقع بين سكان الحسيمة وبين السلطة، ومن بنوده ألا يتوقف التوتر، كما تضمن بندا يلزم المحتجين بمواصلة الاحتجاج إلى الأبد، مهما قدمت لهم من وعود، وبندا آخر يلزم السلطة بألا تترك الفرصة لأي مخاطب آخر، وكلما ظهر ضوء في نهاية النفق، تكون ملزمة بتشديد قبضتها الأمنية والعودة إلى نقطة الصفر.
لهذا، وبعد مرور كل هذه السنوات، وبعد أن صار لنا مشفى وجامعة وطريق سيار وفرص شغل لأبنائنا، وتضاءل حجم الفساد وتغير تعامل السلطة مع المواطنين، فصارت تحترم كرامتهم وتستمع إلى مطالبهم، وبعد أن أمضينا أجمل فترة من عمرنا في الحراك، وهدأ الوضع، وعاد كل منا إلى بيته وانشغالاته اليومية، فإنه لا بأس من أن نعترف بأن الاستفزاز كان متبادلا وبنية مبيتة، ومن كلا الطرفين، وكما كنا نبالغ ونرفض أي حوار وأي وعد، فقد كانت السلطة بدورها متعنتة تعتقل الأبرياء وغير الأبرياء، وتتهمنا بالانفصال، إضافة إلى أننا كنا متفقين ألا يذعن واحد منا إلى الآخر، فلم نتراجع لا نحن ولا هي إلا بعد أن بدأنا نشعر بالخطر، وبشكل متأخر ترك في المغرب ندوبا يصعب أن تمحى.
أما الآن وبعد مضي كل هذه السنوات، فإن الأمر لم يعد سرا وبعد أن زال الحرج، فإننا نتذكر الحراك بكثير من النوستالجيا، ونتذكر كم كنا متنطعين، وكم كانت السلطة تنافسنا في تنطعنا، وكم كان المغرب يرفض أن يبرح مكانه، وكم كانت تلك الأجواء جميلة ولا تنسى، خاصة حين كانت القوات العمومية تمعن في قمعنا وفي الزج بنا في السجون، بينما كنا نحن نلح على أن تتحقق كل مطالبنا في الحين.
حميد زيد