الدين قيمة مركزية داخل المجتمع المغربي. حوله تتمفصل القيم الأخرى. هذا الواقع ليس معطى ثابتا لصيقا بطبيعة أزلية للمغاربة، بل حصيلة سيرورة تاريخية لم تتوقف قط، لها ما قبلها وما بعدها.
الدين بالنسبة لمعظم المغاربة هو الإسلام، والإسلام في واقع الممارسات اليومية تمثلات وطقوس جد متنوعة. فمنذ أن انفتح المغاربة للإسلام، انطلقت ميكانيزمات تملك تعاليمه وقيمه الإنسانية بشكل متعدد، شديد التنوع وغني باختلافاته وسبل تعايشها وصراعها. فتبلور، بعد مخاضات دامت قرونا، التدين المغربي، أي تشكل مخيال ديني جماعي، واستتباب طقوس وشعائر دينية لدى أغلبية من المغاربة.
يمتاز هذا المشترك الذي تبلور تاريخيا بنوع من التوفيق بين التوجهات والتقنينات الشرعية المستنبطة من الكتاب والسنة من جهة، والأعراف والتقاليد المحلية للتجمعات البشرية التي عمرت بالمغرب من جهة أخرى.
يشير المختصون إلى هذا التوفيق بمصطلح “عمل” كالعمل الفاسي والعمل السوسي وغيرهما. وعبر هذا النوع من الاجتهاد تمت عمليات توطين الإسلام في الأرض المغاربية، أي ما اصطلح على نعته بـ”الغرب الإسلامي”. هذا التمييز المتشبث به، عبر القرون، لم يكن قط نقطة فصل مع باقي العالم الإسلامي، بل همزة وصل ومبرر فعل من موقع الشريك الكامل وليس التابع الخانع.
بالرغم من سمات التعدد داخل التدين المغربي، وغلبة نزعات التوفيق مع الأعراف المحلية، فقد كانت هناك ضرورة للتقنين لضبط نبض المجتمع، وتوجيه تحولاته. هكذا نما دور الفقهاء والعلماء، وخصوصا المكلفين منهم بدور الإفتاء. فهم صناع الرأي، قبل العصور الحديثة، وهم أيضا الساهرون على “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. بعبارة بليغة كانوا هم مبدعي ومروجي “القول الحسن”.
تمتاز النخبة بحسن الإنصات وبحسن إدراك تعقيدات الواقع، وبحسن الاجتهاد للملاءمة بين تعاليم الشريعة وبين معطيات الزمان والمكان، وعلى رأسها طقوس المجتمعات وتوازنها.
صحيح أن بعض أهل الدعوة تجاهلوا معطيات الواقع وانساقوا وراء منطق ثنائي لا يدرك إلا منزلة الحلال ومنزلة الحرام. فروجوا، وفق ذلك التشدد والغلو والتطرف، ونسفوا قيم التسامح والوسطية، وزرعوا الحقد والكراهية والعنف… فعاش المغرب، تحت تأثيرهم، فترات اقتتال وتناحر باسم الدين الإسلامي والشريعة الحقة!
كان الفقهاء يمارسون دورهم الريادي كمربين اجتماعيين، ولم يستثنوا، من دوائر اهتمامهم، أي منحى من مناحي الحياة. فالحياة الدنيا، بالنسبة إليهم، مقدمة للحياة الدائمة، أي الآخرة، وبالتالي فالاهتمام بها عبادة. وبالرغم من قيم الحشمة والتعفف المحيطة بالعلاقات الجنسية بين المرأة والرجل، فإن “القول الحسن”، الذي كان يروجه الفقهاء وعلماء الشريعة، كان يحث عن الإفصاح والتداول المسؤول حول قضايا الجنس باعتبار ذلك عبادة تستلزم النصيحة والإرشاد، “فلا حياء في الدين”.
لتنشئة الأجيال الصاعدة، ولتوجيه المسلمين نحو “الفعل الحسن” كان المرشدون ينشطون داخل كل الفضاءات المتاحة: الأسرة، المسجد، الزاوية، المجالس المختلفة، فضلا عن مرافقة أهل الذكر…
وبطبيعة الحال كانوا يؤمنون بالبعد الديني والتربوي لعلمهم. فهم يلقنون ويبلغون ما يعتقدون أنه الصواب، وينقلون، عبر ذلك، للخلف ما رسخته ممارسة السلف، وبذلك تتم طمأنة المجتمع وضمان إعادة إنتاج قيمه بسلاسة.
تنشر مجلة “زمان”، في ملفها لهذا العدد، مجموعة نصوص مستنبطة من تراث المغاربة الديني في مجال “العلاقات الجنسية” بين الرجل والمرأة. وليس الغرض من هذه الإطلالة الإثارة الإيروتيكية، ولا حتى “التربية الجنسية” بمفهومها النبيل.
إن هدفنا الرئيسي هو لفت النظر إلى أن مسلمي الأمس عموما والمغاربة على وجه الخصوص، لم يكونوا لا من المكبوتين ولا من المرضى المتشددين، بل تراثهم المكتوب والمنقول شفويا جيلا عن جيل، يظهر بالدليل والبرهان أنهم أهل حضارة وأهل مدنية، كرموا الرجل والمرأة، وثمنوا الحياة ومتعها بالرغم من “مركزية لله” في حياتهم اليومية. فباسم لله، ومن واجباته على خلقه، أن يمتع الرجل زوجته قبل أن يستمتع بها، وعليها تجاهه نفس الحقوق والواجبات. حتى أن بعض المفتين كان يعتبر أن الإخلال بالواجبات الزوجية تحريض على الخروج من الدين. فالحكمة هنا هي أن التوازن بين متعة الجسد والسمو الروحي عبر التعبد هو ضمانة استقرار الأسر والمجتمعات، وفي ذلك ترسيخ وتصليب للدين.
نلفت النظر إلى هذا الماضي الثري لنضع الأصبع على خاصية الاجتهاد لملاءمة تعقيدات الحياة مع المعتقدات الجماعية. فاليوم، وفي عصر العولمة، لم تعد منظومتنا الثقافية في منأى عن التأثيرات المباشرة لمستجدات الحضارة الإنسانية، وعلى رأسها ثقافة حقوق الإنسان والثورة المعلوماتية.
لقد أصبحت فضاءات التنشئة كونية والعلم وسع من مجالاته لدرجة مضايقة الدين. والجنس بالرغم من أنه ما يزال طابوها في مخيالنا الجماعي، فقد اكتسح واقع علاقاتنا الاجتماعية بفوضى وتسيب لا يوازيهما إلا التشدد الزائف في خطابات التحريم والإدانة.
بنشرنا لملف “لا حياء في الدين”، ندعو لاستحضار أحسن ما تركه السلف للاجتهاد، بوسائل العصر، لطمأنة الخلف.
المصطفى بوعزيز
المستشار العام