ظهرت في المغرب الحالي مظاهر للاحتجاج لم تكن معهودة من قبل .أصبح المحتجون يعبرون عن غضبهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي. يتعلق الأمر غالبا بـ“فيسبوك“ أولا، ثم “تويتر“ و“إنستغرام“. وقد ظهر مع الوسائط الجديدة محتجون جدد لم يكونوا يشاركون في الاحتجاجات الواقعية التي تنظمها النقابات وجمعيات المجتمع المدني في الفضاءات العمومية بالمغرب. لا نعرف بروفايلات هؤلاء المحتجين، ولا نعرف أصولهم الاجتماعية والثقافية، ولا ظروفهم الاقتصادية والمعيشية. كما أنه لا يمكننا تحديد أعدادهم، ذلك أنه يمكن لهذه الكائنات الافتراضية، وحسب موضوع الاحتجاج، أن تتوالد بشكل كبير وبطرائق مختلفة؛ يمكن أن تكون مجموعات منظمة أو هيئات تملك وسائل الإقناع، وتتناسل بسرعة فائقة لا يمكنك التثبت منها، كما يمكن أن يكون المشكل المحور لوحده كافيا لكي تنطلق شرارة الاحتجاج، وعليه يستحيل العثور على بداية الشرارة ومُطْلِقيها.
الاحتجاج تعبير عن الغضب وهو ناتج عن الإحساس بالظلم وعدم المساواة. ولذا، فإن المحتج الذي يعبر عن غضبه أو سخطه يحقق وجوده ككائن غاضب .فمن الضروري أن يحدد الفرد من هو الشخص أو المؤسسة أو السلطة التي سلبت حقه أو منعته من التمتع بما يعتقد أنه من حقه، لكي يتوجه إليها بالاحتجاج. ولا بد أن يحس الأفراد بانتظامهم، وإن افتراضيا، داخل جماعة أو هيئة أو طبقة. فمن يحتج في المغرب اليوم؟
نخمن أن تكون غالبية المحتجين ممن يسمون الطبقات الوسطى، أو تلك التي تسمى في الأدبيات الماركسية بـ“البورجوازية الصغرى“. هذه الطبقة التي لا تريد أن تنزل للشارع لعدة أسباب، والتي يتلاءم نوع الاحتجاج الجديد مع طريقتها في التعبير عن غضبها دون أن تغامر بمصالحها، والتي هي الاستقرار في العمل وفي السكن وفي التوفير وفي استمرار حياة عائلتها على الشكل الذي رسمته لنفسها… لذا، فإنها وللحفاظ على الاستقرار تبحث عن وسائل وطرائق ناعمة للتعبير عن غضبها والمطالبة بحقوقها. إنها على عكس الطبقات الفقيرة التي لا تعرف طريقة أخرى للاحتجاج غير الخروج إلى الشارع وإلحاق الأضرار بالممتلكات والأشخاص. أذكر أنه خلال مظاهرات 20 فبراير ،2011 سألت شبانا من الأحياء الهامشية لمدينة الدار البيضاء عن مشاركتهم في المسيرات، فكانت أجوبتهم بالنفي؛ سألتهم لماذا؟ أجابوا: أنهم لا يعرفون مظاهرات لا يكسرون فيها الواجهات الزجاجية ويشعلون الحرائق، وأنهم بهذا يفضلون ترك المظاهرات الحالية إلى الشبان المتعلمين والمثقفين.
الاحتجاج الناعم، عبر الوسائط الافتراضية، قد يظهر للبعض أنه لا يفيد ما دام لم يتحول إلى مسيرات فعلية عبر الشوارع والأزقة، وأنه يمكن اللعب على عامل الوقت حتى تتلاشى الجموع وتتفرق بها السبل. وأنه يكفي الانحناء أمام العاصفة حتى تمر؟ وكثير ممن يستشهدون بمظاهرات عصفت بأنظمة عربية خلال الربيع العربي، حيث كان الاحتجاج واقعيا في الساحات العمومية ولم تكن وسائل التواصل إلا وسيلة للتعبئة. وهنا مكمن الخطأ في نظري.
ليست ببعيدة عنا في المغرب حملات المقاطعة ضد بعض المواد الاستهلاكية المُنْتَجَةِ من طرف شركات معينة يمتلكها أشخاص معينون لهم ارتباطات سياسة معينة وعداوات سياسية، خاصة مع أحزاب بعينها وأشخاص داخل هذه الأحزاب. رأينا الضرر الذي لحق بهذه الشركات والمضاعفات التي ترتبت على ذلك؟ صحيح أن الاحتجاج الافتراضي لا يؤدي بالضرورة إلى إغلاق الطرقات أو تعطيل حركات المرور، لكن بإمكانه أن يلحق الضرر بالاقتصاد وبمصداقية البلد التجارية والصناعية والاستثمارية. عرفنا الوقت الذي استغرق ترميم الصورة الاعتبارية لبعض الشركات الأجنبية التي طالتها حملة المقاطعة سنة ،2018 وكيف تضررت تلك الشركات على المستوى التجاري.
داخل تاكسي صغير، كان السائق غاضبا ويتحدث بعنف وبصوت مرتفع. سألته عن غضبه، حدثني عن ارتفاع أثمان المحروقات. سألته عن حل هذه المعضلة لأن الحكومة كانت أعلنت عن مساعدة مهنيي النقل. فأجابني أن ذلك غير صحيح المساعدة غير كافية، قلت: ما الحل إذن؟ أجاب: «التوقف ليوم أو يومين فقط عن العمل، توقف جميع السيارات الخصوصية، يعني إضرابا عن العمل واستهلاك كل شيء، صيام عن العمل والأكل والترفيه وعن كل ما يمكنه در السيولة في جيوب التجار وفي خزينة الدولة، وسوف ترى كيف أن الأمور سوف تتغير». سألته كيف يمكن أن تنظم عملية ضخمة كهذه، أجابني بطريقة الواثق مما يقول: «فيسبوك يا سيدي، من خلاله يمكن أن تنظم أكبر الحملات، الناس كلها مظلومة والسكين وصل للعظم، واشْ نْسيتي حملة المقاطعة؟».
تأملت كلامه ورأيت كيف أن المواطن تحول، بمجرد امتلاكه لهاتف خلوي، يدخل في تواصل مع من يوجدون في وضعيته الاقتصادية والاجتماعية .وكيف أن التحالف بين الطبقات يتم دون وعي منها من خلال ضرورات الحياة. هناك تحالف مصالح بين طبقات الشعب وهو ما لا يمكن التغلب عليه ببلاغات التكذيب مهما كانت صادقة .لقد أصبح للفضاء الافتراضي سلطة على الواقعي وليس من الضروري أن تقوم بالإنزالات التقليدية الضخمة في الساحات العمومية.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير