اختارت الدولة المغربية يوم 18 نونبر لتخلده كعيد للاستقلال، بالرغم من أن المغرب لم يحصل على استقلاله رسميا إلا يوم ثاني مارس من سنة 1956. لقد سال الكثير من المداد حول اختفاء ذكرى 2 مارس من الذاكرة الجماعية للمغاربة، ولجوئها لطبوغرافية الدارالبيضاء لتحتمي فيها على جنبات شارع يحمل نفس الاسم. ومع ذلك نعتقد أن التذكير بالملابسات التي صاحبت هذا الاختيار لا تخلو من فائدة.
تميز المغرب عن الجزائر، في علاقتهما بفرنسا، بكونه لم يكن مستعمرة فرنسية بل مجرد حماية. والحماية في القانون الدولي نظام لا يلغي الشرعية السياسية للبلد، بل يضعها تحت تأطير ورقابة السلطة الحامية، وبقاء هذه مهيمنة على البلد المحمي محصور في الزمن، ومرتبط بأهداف يجب تحقيقها على مستوى الدولة والمجتمع.
كان التوجه الاستعماري الفرنسي يبرر وجود حمايته بـ”برسالة حضارية” اتجاه المغاربة المتخلفين على العصر. لما نهض المغاربة، بقيادة الحركة الوطنية وفكرها المجدد والمتنور، طالبوا أولا بوضع حد للتمييز الذي كان قائما بين الأوربيين المقيمين في المغرب، وعموم المغاربة الذين صنفتهم سلطات الحماية في درجة أدنى، درجة “الأهالي”. ونددوا، ثانيا، بالانزلاق الذي سقطت فيه الحكومة الفرنسية بتحويل المغرب من “نظام الحماية” إلى “نظام المستعمرة”، فانطلقت مسيرة المطالبة بالاستقلال مؤطرة ببعد حضاري، وآخر حقوقي. فمن الناحية الحضارية، وتأسيسا على مقولة “أن فرنسا هي وريثة الثورة الفرنسية”، يسائل الوطنيون الأوائل فرنسا ونخبها كيف يستقيم الحديث عن مبادئ الحرية والمساواة والعدل الاجتماعي وتساوي الفرص، في فرنسا المتروبول، وممارسة عكس ذلك في المغرب، عبر التمييز والتهميش الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي؟
أية “رسالة حضارية” هذه التي تؤسس للاستعباد؟
أما من الناحية الحقوقية، فقد ركز الوطنيون على خرق فرنسا السافر للقانون الدولي، بضربها عرض الحائط “اتفاقية الحماية”، بعد أن حولت المغرب إلى مجرد مستعمرة، عبر تهميش السلطة الشرعية للبلاد، أي السلطان سيدي محمد بن يوسف، وبعد أن جمدت المصالح الإدارية السلطانية ورسختها في دور “كومبارس” وديكور محلي يزين المركب الإداري الاستعماري.
على قاعدة هذه المرافعة، طالب الوطنيون المغاربة باستقلال البلاد وبرفع “حالة الحجر” على الشرعية المغربية، وبجلاء القوات الأجنبية من التراب المغربي. سيشكل هذا التوجه العمود الفقري لبرنامج التحرر من الاستعمار، كما سيكون القاعدة التي سيتأسس عليها التحالف الاستراتيجي بين الوطنيين الأوائل والسلطان سيدي محمد بن يوسف.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وخصوصا بعد رحلة السلطان سنة 1947 إلى طنجة، سيصبح سيدي محمد بن يوسف الرمز المتميز للوطنية المغربية. حاول الاستعمار بكل الوسائل، منها الترغيب ومنها الترهيب، فك الارتباط بين السلطان والوطنيين، قلم يفلح. وعندما نفذ صبره تجرأ فأقال السلطان من عرشه ونفاه وأسرته إلى جزيرة مدغشقر يوم 20 غشت 1953، ظانا أن تعويضه بعلوي طائع وقابل للتسخير سيمر بدون تعقيدات كبيرة. انتفض الوطنيون بقوة السلاح وقوة الكلمة، منهم من حمل البندقية ومنهم من حمل العريضة، منهم من استشهد بالآية القرآنية والحديث النبوي، ومنهم من استحضر فلاسفة الأنوار ورموز الثورات الشعبية في العالم. كلهم يطمح للحرية، للعدالة والعيش الكريم، وخصوصا عودة “السلطان المفدى” إلى وطنه وشعبه وعرشه.
وبالرغم من أن فرنسا، الممثلة سنة 1955، في شخص رئيس مجلسها الحكومي، إدغارفور، اقترحت على الوطنيين المغاربة الاستقلال دون عودة السلطان، فإن هؤلاء رفضوا العرض وطالبوا بعودة السلطان أولا، والتفاوض على الاستقلال ثانيا. ذلك أن الوفاء المتبادل كان هو “الإسمنت” اللاحم للتعاقد بين الوطنيين والمؤسسة الملكية. فعاد السلطان سيدي محمد رغم أنف المعمرين والعسكريين المتطرفين.
فكان دخوله للمغرب يوم 16 نونبر 1955 يوم عيد، اقتحم المغاربة فيه الفضاءات العمومية، داخل المدن والقرى، وتحدوا قوات الأمن الفرنسية وجحافل فرقه العسكرية، وانتشوا بنسائم الحرية ونشدوا الأغاني الوطنية التي كانت بالأمس ممنوعة، لذلك اعتبر يوم 17 نونبر يوم عيد الانبعاث. أما يوم 18 نونبر فقد كان يوافق تاريخيا يوم عيد العرش، أي يوم مبايعة سيدي محمد بن يوسف خلفا لأبيه سلطانا على المغرب سنة 1927. إلا ان هذا اليوم بالذات، 18 نونبر 1955، سيتماهى فيه عيد العرش مع عيد الاستقلال. فخلال خطاب العرش، سيعلن سيدي محمد انتهاء “عهد الحجر”، كما سيصرح أن الجهاد الأصغر، أي جلاء المستعمر وتثبيت الاستقلال، قد انتهى، ليفسح المجال لـ”الجهاد الأكبر”، أي بناء الدولة الوطنية المستقلة. فالثورة المغربية، “ثورة الملك والشعب”، لم تنته بعودة السلطان وبتحوله إلى ملك، بل ما زالت مفتوحة… لم يغلقها حصول المغرب على استقلاله في ثاني مارس 1956، ولا استقلال الدرهم المغربي عن الفرنك الفرنسي سنة 1959، فهي ثورة مستمرة في نظر الوطنيين والملك محمد الخامس.
هكذا اعتبر المغاربة أن استقلالهم الفعلي جسدته الأيام الثلاثة الخالدة من شهر نونبر 1955، 16 عيد العودة، 17 عيد الانبعاث، و18 عيد العرش (عيد الاستقلال). فتحت هذه الأيام الخالدة مرحلة “الجهاد الأكبر”. منذ ستين سنة والمغاربة يخوضون هذا الجهاد. بعض المرات كان فيها الفعل مشتركا في جو من التوافق والتعاضد، فسما الوطن وأشع المغرب. وفي مرات أخرى، تعارض المغاربة، فسمت المصالح الصغيرة على القضايا الوطنية، فصغر المغرب وضيع مصالح حيوية وفرصا ثمينة للرقي الجماعي. منذ ستين سنة، ينتظر المغاربة القفزة النوعية نحو العصر وقيمه… لا نتمنى لشعبنا، بهذه المناسبة، إلا أن يقل الانتظار وأن يحسم التردد. كل عيد وأنتم مواطنون.
المصطفى بوعزيز
المستشار العام