استرعى انتباهي إعلان إشهار، يحبب الخفة، ويدعو لها، مستعملا اللسان الدارج في وصلة كتب عليها “الخفة هي الأساس”. والدارجة وسيلة تواصل، لا جدال في ذلك، ودخلت حيز الإشهار، ولو أن الإعلانات تروغ في الغالب إلى ترجمة حرفية من الفرنسية ولا تراعي عبقرية الدارجة الحق، ولا بنيتها، وتُكتب في الغالب كيفما اتفق بلا قواعد ثابتة في الإملاء، والمثير طبعا هو أن معاني الكلمات غير دقيقة، فواعر مثلا، كانت تعني قبل جيل، شرس، كمن يقول “كلب واعر”، أو صعب المراس كقولك أستاذ واعر، ثم أصبح لها معنى آخر، مقابل ما كان يقال له في جيلي”دايزو الكلام”، أي غني عن الوصف، فيقال اليوم، واحد البنت واعرة، وطوموبيلة واعرة، ولعايبي واعر، واحد لا سواري واعرة… تعني ما تعرفون، ولا حاجة في الإفاضة فيه ولا علاقة له بالمعنى الأصلي.
و”خوار”، كلمة تعني الفارغ والأجوف، من خار يخور، أي هوى ومنه في القرآن الكريم “عِجْلٌ له خُوار”، أي خائر، كناية عما يسمى في كتاب العهد القديم بعجل الذهب، وأضحى للكمة معنى مناقض تماما في المعنى الأصلي. فإذا قلت بأن فلانا خوار، فأنت لا تعني الذم بل المدح.
والخفة في الدارجة أصلا، كما في العربية ممجوجة، إلا في النادر، كما في محكم التنزيل “فأما من خفَّت موازينه فأمّه هاوية”، وفلان خفيف بالدارجة، أي غير مكتمل النضج، على خلاف ثقيل، أي رصين… وتستعمل على سبيل التورية لتعني العكس، فالخفة هي الحمل (حمل المرأة)، والخفيف هو الرصاص، والبياض هو الفحم، والبصير هو الأعمى، وهلم جرا.
وبغض النظر عن هذه الفذلكات اللغوية، فالذي حدث أو يحدث هو انزلاق مفاهيمي أو أخلاقي، يجعل مما كان يتوجس بشأنه ممدوحا ومطلوبا، وأن حقا “الخفة هي الأساس”.
خصص الكاتب ميلان كونديرا فصلا في روايته، “خفة الكائن المقدّرة”، حول العلاقة بين الزيف والصحيح، انطلاقا من الجذور الأولى للفلسفة منذ أفلاطون إلى نيتشه، ليقول بأن العلاقة بين الزائف والصحيح علاقة صدامية، وأن الزائف لا يمكن أن يثبت مع وجود الصحيح ولذلك يُوجّه حرابه للصحيح في شراسة وبلا هوادة، ويوظف كل الوسائل الممكنة حتى الدنيئة منها. يمكن طبعا أن نتعايش مع “الخفة” ونجعلها مثلما تقول الوصلة الإشهارية، هي الأساس، ولكن هل نستطيع أن نقيم شيئا عظيما مع تصورات “خفيفة” وأشخاص “خفاف”… والمطلوب حقا في ظرفية معينة وطنيا وإقليما، الانتقال النوعي من طور لطور. والمطلوب كذلك هو الخروج من هذا اللعنة التي تجثم علينا، هو أننا لا نكمل ما نبدأ، وهو مثلما ذهب المتنبي أكبر عيب إذ يقول:
ولم أرَ في الناس عيب // عجز القادرين على التمام
ومما لا جدال فيه، أنه تحققت تراكمات إيجابية على أصعدة عدة، من العمى إنكارها، ولكنها بذات الوقت تعايشت مع ممارسات طفيلية، يمكن إن تعاملنا معها باستخفاف أن تتهدد ما تحقق.
لنأخذ قضية التعليم. ليس هناك شخص غير واع بضرورة إصلاحه، ولكن ليس المطلوب إصلاح تقني، بل ليس المطلوب أن نتحدث لغة الأرقام، لأن ما نروم هو أن نخرج من أنموذج لآخر، و أن نميز ما بين إصلاح المدرسة، وإصلاح المنظومة التربوية، وهما شيئان مختلفان. الأولى ترتبط بمشروع مجتمعي، أو على الأصح بطموح جماعي، وبمنظومة قيم، والثانية، تحيل إلى لغة الأرقام والمصطلحات، وهي المقاربة المستعملة إلى الآن.
الخفة قد تكون محمودة لتدبير الآني، في ظروف عادية، ولكن المطلوب في ظروف استثنائية، “هو الصح”. يقول المثل الدارج : “ما ك يبقى في الواد غير الحجر الصحيح”.
هل نستطيع تجاوز “سنوات الخفيف” وما شابها ورافقها مثلما تجاوزنا “سنوات الرصاص”؟
نعم نحن قادرون، بل ملزمون. يمكن أن نضيف مثلا آخر، مستقى من رواية عالمية كان لها غِبَّ صدروها أثر قوي للكاتب أرثور كوستلير، اختار لها عنوانا مستقى من الإنجيل “العتمة في واضحة الظهيرة” Darkness at noon تحيل إلى لحظة صلب المسيح (حسب العهد الجديد) كيف أن الظلام عم الأرجاء ساعة الظهيرة. واختير لها عنوان آخر بالفرنسية مستقى من الرياضيات “الصفر والمنتهى”، وصاحب الرواية حامل لرؤى العقلانية والعدالة، ورأى كيف أن ما كان يسمى بمحاكمات موسكو، أجهزت على الأمل، من خلال القضاء على الصفوة الحاملة لهذا الأمل، من قبيل ما أسماهم بإنسان “النيدرثال”، أي القريب من الحيوانية منه إلى الإنسانية.
يمكن أن نضيف تتمة للإعلان الإشهاري، الخفة في كل مكان، ومن تفكر خان.. إن لم يباغتنا كما في رواية كونديرا، بطل يخرج عن المألوف، ويقلب سلم القيم، ويدعو إلى أن الخفة ليست هي الأساس.
تابع الجميع الانتخابات المحلية في دورتيها، المباشرة، حيث كان لها منطق، ثم غير المباشرة، حيث لم تعد تخضع لأي منطق لا حسابي ولا سياسي.
ما زلنا فيما يخص إصلاح التعليم لا نميز ما بين المنظومة التربوية، والمدرسة، أن الأولى مرفق له ضوابطه وإكراهاته، ولغته الرقيمة، وأن الثانية تحيل إلى طموح جماعي.
أخشى يوما يأتي جيل ينعت وضعنا بسنوات الخفيف (والخفيف هو الرصاص إن كنتم تذكرون)، وقد يأتي مؤرخ فيكتب، بعد سنوات الرصاص، أعقبت ذلك سنوات الخفيف، ومن يدري، فقد يروق لفيلسوف أن يزعم أن اختلاف المصطلح لا يعني اختلاف المعني، وقد يخلص “وكان شأنهم آنذاك، كبرج بابل، كل ينعق بما يحلو له، ولا يتأتى لهم التفاهم فيما بينهم وقد وضعوا “الخفة هي الأساس شعارا لهم”.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير