تعود قضية التعليم كفكرة مهيمنة مع كل دخول مدرسي وجامعي جديد. تعود لتحمل لنا، مرة أخرى، كل المشاكل التي تجرها والتي ستضاف إليها أخرى، بكل تأكيد، في السنوات المقبلة. تعود، أيضا، لتذكرنا بأننا لم نجد، بعد، الحل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. لم يؤد تراكم الإصلاحات، التي كانت دون جدوى، إلا إلى تفاقم الوضع الكارثي أصلا، وإلى رهن مستقبل الأجيال القادمة، التي لم تكن سابقاتها أحسن حظا، حيث أصبح مئات الآلاف من تلك الأجيال خارج فصول المدرسة، وبالتالي أصبح من الصعب إنقاذهم عمليا، أو إيجاد مخرج لهم بأثر رجعي.
لقد أضعنا، في الواقع، طاقات عدد هائل من خيرة الشباب في عنفوان عمرهم. كانت الخسارة كبيرة، وكأن قنبلة موقوتة انفجرت في قلب المجتمع. والأسوء، أن شجرة الكستناء تلك تذكرنا، كل سنة، بكل الجمرات الحارقة، التي اكتوى بها المجتمع جراء تلك الإصلاحات، أو تلك الإصلاحات المفترضة التي عرفناها وجربناها، في الأمس واليوم، وأيضا قد نعيشها غدا بكل تأكيد.
كنا نخرج، في أحسن الأحوال بالحد الأدنى من الخسائر: بعض الأنباء السارة حول خفض أسعار اللوازم المدرسية، والنقص من وزن المحفظات التي تثقل كاهل التلاميذ. ثم ينتهي كل شيء، ولن يكون، هناك، ما يمكن أن يثير رأيا عاما أصبح، على حد سواء، مبتسرا ومتراخيا ومستقيلا. بينما أصبح الآخرون، الذين ابتسمت لهم الحياة، يفكر كل واحد منهم في كيفية إنقاذ “ذريته”، وفق إمكانياته المادية، ووفق عروض التدريس والشعب المقترحة.
نادرا ما تعرض قطاع عمومي للانتقاد بالإجماع. ونادرا ما كانت الجهة الوصية، سياسيا، على قطاع حيوي، كالتعليم، محط إدانة غير قابلة للاستئناف. وظل الاختلاف السلبي سائدا بالإجماع، على مدى عدة عقود من الارتجال، وسط مختلف الفرقاء، لنجد أنفسنا أمام إرث ثقيل لا نعرف كيف ندبره، ولا على أي محمل يمكن أن نأخذه. في غضون ذلك، اكتفى السياسيون باجترار نفس الخطابات الملقاة حول ما يسمى بـ”المواقف المبدئية”. لكن في الواقع، لا تكاد خطاباتهم، تلك، تخفي الفارق بين ما يدعون تقديمه لأبناء الآخرين، وبين ما يريدونه، عمليا، لمن هو أو هم من صلبهم.
لنصور الأمور دون السقوط في الرسوم الكاريكاتورية، ولنقل إن المدرسة العمومية، المؤسسة التي لا تقدم إلا الحد الأدنى من المناهج التعليمية، خلقت للآخرين. فيما تفتح أبواب المدارس الخاصة، ذات المرجعية الغربية، أمام الأجيال المقبلة من النخب المالية والسياسية.
لقد سبق أن عمل العربي إبعقيل، الأستاذ-الباحث بكلية علوم التربية، على تعرية الواقع التعليمي في المغرب، من خلال دراسة نشرها في تسعينات القرن الماضي، في كتاب بعنوان: «المدرسة المغربية والتنافسية الاجتماعية». خلصت الدراسة إلى أن توزيع التلاميذ بين المؤسسات العمومية والخاصة والأجنبية، حسب كل طبقة اجتماعية، جاء على التوالي كالآتي: 96 في المائة، 4 في المائة و0 في المائة بالنسبة للطبقة الشعبية، مقابل 79,5 في المائة، 18,5 في المائة و2 في المائة بالنسبة للطبقة المتوسطة، و17 في المائة، 29 في المائة و54 في المائة بالنسبة للطبقة الغنية. ذلك ما يفيد، يلاحظ صاحب الدراسة، أن 83 في المائة من المنتمين إلى الأوساط الميسورة لا يخفون استياءهم التام من خدمات التعليم العمومي، وأن 17 في المائة منهم، فقط، يضعون أو ما يزالون يضعون الثقة فيها. أصبحت المدرسة، هكذا، تمثل شكلا من أشكال اللامساواة والظلم الاجتماعي، يعيشه البعض داخلها، بينما يتصوره آخرون من الخارج.
هل تغير هذا الوضع الآن؟
أبدا، لم تتحرك المياه الراكدة. بل إن كل المؤشرات تدفع إلى الاعتقاد بأن علات التعليم لن تزيد إلا استفحالا، بعد أن أصبحنا متخلفين عن الزمن الذي كانت فيه المدرسة العمومية فضاء حقيقيا للرقي الاجتماعي ولإنتاج النخب بمختلف أشكالها. بل يمكن القول إن النظام التعليمي بأكمله لم يعد، اليوم، قادرا على الاستجابة لأي هدف من أهداف التنمية الاقتصادية، أو لأهداف الإدماج الاجتماعي. وأصبح، فقط، منتجا لعدد متزايد من حاملي الشهادات المعطلين، ينظر إليهم على أنهم غير ملائمين لسوق الشغل. أعلنت وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني، أخيرا، أن الكتب المدرسية الخاصة بمادة التربية الإسلامية خضعت لمراجعة شاملة «وفق التوجهات الجديدة لمنهاج التربية الإسلامية»، وأشارت إلى أن المراجعة «راعت القيم الأصيلة للشعب المغربي القائمة على التشبع بمقومات الهوية الوطنية بثوابتها الدينية ومكوناتها المتعددة». يبدو الأمر جيدا، لكن حبذا لو بادرت الوزارة، باستعجال، إلى مراجعة شاملة للتعليم العمومي ككل، حتى يراعي الحاجيات الحقيقية لأبناء الشعب، ويفتح أمامهم كل الآفاق. نعرف أن الطريق طويل وشائك. لكن مشروع الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة.
يوسف شميرو
مدير النشر