العقد الاجتماعي هو اللحمة التي تربط مجموعة بشرية تعيش في إطار دولة. ولذلك، غالبا ما تكون الدولة هي التعبير عن العقد الاجتماعي. والعقد الاجتماعي هو العلاقة الضمنية بين الحاكمين والمحكومين، والصلة بين مختلف المكونات المجتمعية، كما أنه صلة بين الأجيال. قد يرتبط العقد الاجتماعي بأسطورة مؤسسة، تحيل إلى ذاكرة جماعية، ولكن أهم ما يشد العقد هو إيمان مكوناته بمصير مشترك. والعنصر الحاسم في العقد الاجتماعي هو الثقة كشعور يسري بين مختلف المكونات، وهي التي تمنح للعقد الاجتماعي قوته وعنفوانه، من دونها يذوي العقد، ومن دون عقد جماعي تتحلل الجماعة وتنقلب القيم، وتدخل مرحلة طبيعية يسودها التناحر وتطبعها الأنانيات. ليس الغاية أن ننغمر في سجال أكاديمي، ولكن ما نبتغيه هو تمتين بنود العقد الاجتماعي بالمغرب، من خلال شيء أساسي وهو الثقة. العقد الاجتماعي ككل العقود، قد يعرف إعادة النظر في بعض بنوده، بالنظر لمستجدات، أو تغيير سلم الأولويات، أو المساس ببعض بنوده. ولا عيب أن نقول بضرورة إعادة النظر في بنود العقد، مما يسميه البعض بضرورة الانفراج السياسي، وهو العنصر السابق على كل مبادرة ذات طابع تقني… المطالبة تلك، ليس ليّا لذراع مؤسسات الدولة، ولا نكاية، أو مزايدة، أو تعجيز، ولكن خلق أجواء ملائمة للتصدي لمختلف القضايا المطروحة، منها ما هي ذات طبيعة وجودية، وهي الوحدة الوطنية والترابية، ومنها قضايا اجتماعية ملحة بالنظر إلى ما يعرفه العالم من أزمة مالية واقتصادية. ومن الضروري استعادة الثقة. الثقة في المؤسسات طبعا، من هيئات تنفيذية، وقضائية وأمنية. والثقة في الهيئات الوسيطة، من أحزاب ونقابات، والثقة في القوى الحية، من مجتمع مدني وصحافة، والثقة في الشعب والدينامية التي تكتنفه، والثقة في القطاع الخاص، وثقته كذلك في المؤسسات. ذلك أن المغرب محتاج لكافة أبنائه، من كل الشرائح. يحتاج إلى تقنوقراطييه، وقطاعه الخاص، وهيئاته المدنية، ومثقفيه، والطبقات الشعبية، في دائرة القانون الذي يعلو ولا يعلى عليه. ولا ضير أن يتم استحضار روحه في التطبيق، عوض التشبث الأعمى بمنطوقه، أو تطبيقه تطبيقا اجتزائيا. القانون ليس هو التشهير، ولا الاختلاق، ولا نصف الحقائق، التي قد تكون تدليسا وافتراء. لا ينبغي لأي فئة أن تتمتع بحظوة أو وضع اعتباري، أو أن تكون فوق القانون، ولكن بذات الوقت لا يمكن أن تكون تحت القانون. الحالتان، فوق القانون، أو تحت القانون، إن صح هذا التعبير، مُخلتّان بالعقد الاجتماعي. لا نشكك في تجرد عناصر الإدارة، ووجود قضاة نزهاء، ولا تضحية الأمنيين وسهرهم على الأمن والطمأنينة، في ظروف صعبة في الغالب، ولكن التطبيق الجزئي للقانون ليس هو القانون، ولا تفيد الصرامة البعدية، حين يسود التحلل القبلي، ومن الضروري استحضار روح القانون على منطوقه، وكذا سُلم الأولويات، مثلما وضعه الفقه المالكي من المصالح المرسلة، ودرء المفسدة مُقدم على جلب المصلحة. لقد عرفت بلادنا في تاريخها الحديث تجارب مريرة، وتهديدات داخلية وخارجية، ومرت بظرف اقتصادية صعبة، ولكنها استطاعت أن تتغلب عليها، وتخرج أكثر مناعة لأنها أبقت على عقدها الاجتماعي، وعلى أهم عنصر فيه، وهو الثقة. المغرب يحتاج إلى أبنائه كلهم، من أي المشارب كانوا، ولا بد من عنصر الثقة كي يصبحوا قوة خلاقة، منتجة، تتضافر جهودها، عوض أن تتنافر.
هناك كتاب شهير للفيلسوف الأمريكي فرانسيس فوكوياما بعنوان “الثقة” لا يتحدث فيه لغة الأرقام، بالنسبة للمجتمعات التي رسمت ما سمى قصص نجاح، ولكن عن شيء يعتبر أساسيا للتغلب على الصعاب، وكان أساسا لنجاحها، من خلال إرساء علاقات دائمة بين مكوناتها تطبعها الثقة.
يستعمل رجال الأعمال مصطلح الجاذبية، أي جاذبية دولة للاستثمارات، وهذه الجاذبية هي عنصر من الرأسمال اللامادي، مثلما كنا نتحدث قبل بضع سنوات، ومن مقومات هذه الجاذبية الثقة. علينا جميعا، من أي مستوى نكون فيه، الحفاظ على هذا الرأسمال اللامادي الذي هو الدعامة للعقد الاجتماعي.
في أحد عيون الأدب العربي المعاصر، يعرض محمد كامل حسين في رائعته “قرية ظالمة” كيف أن كل مسؤول في أورشلييم كان يشعر أنه يقوم بواجبه، في دائرة اختصاصه، حين حكمت القرية بالصلب على أحد من أبنائها البررة الذي كان يسعى أن يرشدها إلى روح الدين، ولم يكن يُقدّر أن مسؤوليته المجزأة كانت تنطوي على ظلم كبير. فالقاضي الذي نطق بالحكم كان يعتقد أنه قام بواجبه، والحداد الذي هيأ المسامير للصلب لم يساوره الشك على اقتراف مظلمة كبيرة. وليست أحداث ذلك اليوم من أنباء القرون الأولى، كما يقول محمد كامل حسين، بل هي «نكبات تتجدد كل يوم في حيات كل فرد، والناس مُعرّضون لما وقع فيه أهل أورشليم حينذاك من إثم وضلال».
فلْنُبقِ هذا الرأسمال اللامادي، وهو الثقة، وإلا سيكون عبثا أن ننادي بصناعة الأمل…
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير