تعجبني عبارة مأثورة عن سفيان الثوري، واحد من علماء المسلمين بالقرن الثاني الهجري، حيث قال: «العلم عندنا رخصة من ثقة، أما التشدد فيحسنه كل أحد»، تذكرتها وأنا أتتبع ردود الفعل حول المبادرة الملكية لدعم المقاولين الشباب، والتي كانت في أغلبها إن لم تكن كلها مرحبة ومستبشرة بهذا المشروع، لما يتوقع منه من فتح الآفاق أمام الشباب العاطل لتحقيق انطلاقته المادية، وإعطائه فرصة تحقيق أحلامه وطموحه، في ظل أزمة خانقة ورغبة عند كثير من هؤلاء الشباب في ترك وطنهم ولو على قوارب قاتلة.
حتى الدكتور أحمد الريسوني سجل موقفا يحسب له دون شك، حين اعتبر القروض الممنوحة لهؤلاء الشباب ليست من الربا، رغم أن السداد سيكون بفائدة لا تتجاوز 2 في المائة، ورأى أن ذلك من الإحسان والتبرع وليس من أكل المال بالباطل، وهو موقف لا بد من تثمينه مهما كان الموقف من أفكار الرجل واختياراته في قضايا أخرى، بحكم مكانته الاعتبارية لدى تيار داخل المجتمعات الإسلامية.
وحده وزير سابق في حكومة مغربية كانت وما زالت تتلقى القروض من مختلف الجهات الدولية، وتؤطر نظاما بنكيا حديثا بكل تعاملاته الكلاسيكية، من خرج رفقة بعض الشيوخ المتشددين عن هذا الإجماع، ورأوا أن هذه قروض ربوية يعلن بها ذلك الشاب قيام الحرب عليه من لله ورسوله، لمجرد أنه أراد إنقاذ نفسه من شبح العطالة وحمايتها من الانهيار، ولم تشفع له تلك الفوائد المنخفضة جدا في فتح أبواب التيسير عليه بزعم هؤلاء، لأن درهم ربا أعظم من أن يزني الرجل بأمه بجوف الكعبة كما في بعض الروايات المتهالكة التي يستند عليها الرجل ومن معه.
مثل هذا التشدد المبالغ فيه في قضية تهم الشأن العام وتخص مصلحة حاجية لدى فئات من الشعب لم يكن يوما منهجا متبعا حتى عند الفقهاء المتقدمين في هذا الجزء من العالم الإسلامي، ولا يمثل بنظري إلا ارتدادات لآثار المد الوهابي الذي عرفه المغرب قبل عقود خلت، والتي نقلت نحونا ذهنية دينية مختلفة تماما عما عاشه المغرب قرونا طويلة مع حكامه وفقهاء دوله المتعاقبة على حكمه.
فبعد محاولات كثيرة لإدخال الإسلام بقوة السيف باءت جميعها بالفشل، لم يستوعب المغاربة الدين الجديد إلا حين تخلى عن سياقه المشرقي وانسجم مع السياق الحضاري المغربي المختلف تماما في كثير من عناصره ومقوماته، حتى قال المستشرق جاك بيرك: «تمزغ الإسلام أكثر مما أسلم الأمازيغ». هذا السياق الحضاري المختلف الذي لا يستوعبه الخاضعون للاستيلاب المشرقي هو ما جعل الفقهاء المغاربة منذ ذلك الوقت يستوعبون أن تنزيل الأحكام الشرعية على الواقع بتعقيداته وحاجاته يقتضي نوعا آخر من التناول غير تلك الحرفية والظاهرية التي كان عليها المشارقة، بل لعل ذلك من أسباب اختيار مذهب مالك بن أنس، لاعتماده على عمل البلدان وأخذه بما توافقوا عليه، ولذلك تجد عند المغاربة ما لا تجده عند غيرهم من اعتبار الأعراف أصولا للتشريع، فتجد العمل الفاسي والعمل السوسي ولا تجد عند المشارقة امتدادا لأخذ مالك بعمل أهل المدينة.
كما أن فقهاء المغاربة تميزوا عن نظرائهم في المشرق بما عرف بفقه النوازل، وهي المؤلفات التي كان يحرر بها القضاة والمفتون آراءهم في قضايا وحوادث رفعت إليهم للنظر فيها والفتوى بما يراعي واقعهم وسياقاتهم، وهي غير كتب الأحكام العامة والمجردة، بل كتب تلامس الواقع وتحركاته وتغيراته وإكراهاته، وقد كانت التآليف غزيرة في هذا الباب، ولعل من أبرزها “المعيار المعرب ” لأحمد الونشريسي، و”النوازل الكبرى” للمهدي الوزاني، و”الأجوبة الكبرى” لأحمد بن عرضون الشفشاوني، وغيرها من عشرات العناوين التي لم يعرف لها الشرق مثيلا. الغريب في الأمر، أن المشرق ظل دوما ولا زال إلى اليوم يعتبر المغرب ككل البلدان الأخرى تابعة له، وأنه يجب أن يكون مصدر الفهم الديني بحكم بزوغ الإسلام من ربوعه، لكن المغرب الأقصى بالخصوص أسس على مر التاريخ نموذجه الخاص في التدين، وكان لاستقلاله السياسي وعدم دخوله تحت الخلافات الإسلامية المتعاقبة دور كبير في تأسيس هذا الفقه المستقل، فضلا عما وقع من احتكاك بين أهل البلاد الأمازيغ والوافدين من الجزيرة العربية، وما خلفته عودة الأندلسيين إلى المغرب كوريث شرعي لحضارة الأندلس، إضافة لاختلاف الطبيعة والبيئة والعمران، كل ذلك جعل مجالات التفكير عند المغاربة أوسع وأعمق، كما أن الأحداث والتطورات كانت أكثر اختلافا، ويوم كان رجل بقيمة ابن تيمية مجهولا بالمغرب لا يعرفه أحد، كان المغرب المريني في أوج ازدهاره الحضاري، وهو ما لا يعيه دعاة الإسلام الجدد. الحديث إذن عن “إسلام مغربي” ليس نوعا من البروباغندا الرسمية، بل هو تاريخ مستمر، وحماية هذا التاريخ هو ما يجعلنا أكثر تفاعلا من غيرنا مع الواقع، وهو ما يجنبنا حتما هذه الشطحات التي تظهر بين الفينة والأخرى، والتي قد تشكل تشويشا على مشاريع وورشات ما أحوج المجتمع إليها.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي