تتوفر كل الأسباب المهنية لمحاورة شخصية مثل إدريس بنهيمة، بالنسبة لطاقم مجلة “زمان”. وذلك بالنظر للمسؤوليات العمومية التي تحملها، فضلا عن تلك التي تحملها والده، وانتماؤه لعائلة لعبت أدوارا سياسية في فترة الحماية و بعد الحصول على الاستقلال. من هذا المنظور يفترض أن يسلط الحديث المطول الذي نقترحه عليكم في هذا العدد أضواء كاشفة حول تدبير الشأن العام، من خلال تجربة أحد أوائل رجالات التقنقراطية السياسية. ولا شك أن تجربة المناصب التي تقلدها تتضمن ما يكفي من عناصر الإضاءة التاريخية لفهم بعض الأحداث الراهنة. وبطبيعة الحال ترتهن هذه الإضاءة بأفكار وأسلوب إدريس بنهيمة وطباعه.
وهكذا حرص ضيفنا، قبل طرح أول سؤال، على التنبيه قائلا: «لا أتفق مع بعض المواقف التي تعبرون عنها في بعض مقالاتكم، وإن كنت أحترم ما تقدمونه لكل من يهتم بالتاريخ الراهن للمغرب. لذلك يهمني أن أوضح أنني لا أشاطركم خطكم التحريري، ولا المراجعة التي تقومون بها لتاريخ بلادنا…» ولعله من الضروري أن نرد من جهتنا على هذا التنبيه، غير المتعارف عليه في تقاليد العمل الصحافي الذي يتسع لتعارض الأفكار من أجل حوار بناء. نود أن نذكر السيد بنهيمة أولا، بأمر بديهي، وهو أنه غير ملزم بأن يكون متفقا أو غير متفق معنا، ومع منهجية المجلة في بحثها عن الحقيقة التاريخية.
لقد كنا دائما، وما نزال، مقتنعين بأن الأمر يتعلق بحقيقة نسبية في حدود ما يتوفر من معطيات موثوقة، دون أن يعني ذلك أنها تبقى مطلقة إذ يمكن أن تتغير عندما تظهر معطيات جديدة أو مناقضة. لحسن الحظ أن الأمر كذلك، وإلا كنا مكرهين على الخضوع لنظام الفكر الوحيد حيث تسود الحقائق التاريخية المصاغة على المقاس، وترفض أية وجهات نظر أو تأويلات مختلفة. من جهة ثانية، يهمنا أن نذكر بأننا لا ندعي امتلاك الحقيقة المطلقة و بأننا عندما نتعرض للأحداث التي تكون الدولة طرفا فاعلا فيها، فإننا نميز دائما بين كيان الدولة كمؤسسات وبين الأشخاص الذين يتصرفون باسمها. هكذا كنا مضطرين لتذكير السيد بنهيمة بأحد المبادئ المؤسسة لتجربة “زمان”، ألا وهو الاستناد على الواقعة التاريخية في حد ذاتها، بغض النظر عن التأويلات المتعددة والمختلفة التي يمكن أن تعطى لها، على اختلاف تقديرات كل طرف. من المؤكد أن السير وفق هذا المبدأ ليس بالأمر الهين. لا يرجع ذلك لمصداقية مراجعنا من عدمها، بقدر ما يرجع إلى ما يمنحه البعض لأنفسهم من سلطة الوصاية أو الرقابة على الذاكرة الجماعية، كما هو الشأن في حالتنا هاته. لكننا حملنا أنفسنا الاضطلاع، بكل أمانة، بهذه المهمة التي نعتبرها سبب وجود هذه المجلة. لعل في أقوال السيد بنهيمة نفسه ما يؤكد ذلك، إذ نعرض رأيه القابل للنقاش بخصوص ملفين من ملفات تاريخنا، حيث يتداخل الماضي بالحاضر. يتعلق الأمر بملفي الريف وما يسمى سنوات الرصاص. فالمشاكل السوسيو اقتصادية التي عاشتها هذه المنطقة الشمالية ليست، في رأي السيد بنهيمة، أسوأ مما عرفته مناطق أخرى من المملكة. لا شك أن لهذا الرأي ما يسنده في الواقع، وثمة من ذكر به بصدد الأحداث الأخيرة في الحسيمة. لكن من غير المعقول، القول بناء على هذا المعطى، إن الريف لا يتميز بأية خصوصيات جهوية وتاريخية. فالوقائع التاريخية عنيدة لا يمكن تجاهلها. كذلك لا يمكن تجاهل أن الأحداث التي عاشتها المنطقة سنة 1958-1959 كانت ذات طبيعة تمردية، كما لا يجوز إغفال ما تدل عليه من فوارق ترابية.
فالريف كان دوما منطقة معزولة، أو مهمشة حتى. لنتذكر، مثلا، أن الطريق الساحلية الرابطة بين شرق وغرب المنطقة، لم تشيد سوى في تسعينات القرن الماضي بينما كانت مبرمجة منذ الاستقلال. وفي انتظار تشييد طريق يصل الشمال بالجنوب ظل سكان المنطقة مضطرين لنهج المسالك غير المعبدة الموروثة عن فترة الحماية. أما بخصوص رأيه في ما يعرف بسنوات الرصاص، فقد ذهب السيد بنهيمة إلى مقارنة ما لا يقارن، إذ يقول: «لقد عالجت هيئة الإنصاف والمصالحة 17 ألف ملف على مدى 43 سنة، في حين شهدت اليونان سنة 1967 فقط اعتقال 6000 شخص في نفس الوقت. وفي 2016، مثلا، شهدت تركيا اعتقال حوالي 50 ألف شخص بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، بينهم 6000 عسكري و3000 قاض. ربما أننا لم نعرف في المغرب مثل هذه الأرقام المهولة لأن جهاز الدولة كان مدنيا، في المجمل. المفارقة، أن تقييمنا السلبي للمرحلة يعود بالضبط لكون عملية الضبط الاجتماعي قد نجحت، وإن لم يكن حجمها كبيرا ». من البديهي أن المقارنات لا تكون دائما صائبة، وكما يقول المثل الفرنسي “Comparaison n’est pas raison” إلا إذا أردنا في هذه الحالة التقليل من حجم هذه الأحداث التي طبعت مرحلة من تاريخ بلادنا.لكن رأي السيد بنهيمة يحترم، ويجد مكانه على صفحات مجلة ليس متفقا مع خطها التحريري. فمرحبا به ضيفا على “زمان” متى يشاء.
يوسف شميرو
مدير النشر