عاد موضوع الذاكرة والمذكرات ليشغل حيزا مهما من النقاش في الساحة الثقافية والإعلامية والسياسية المغربية، خاصة بعد إصدار مجموعة من الفاعلين لمذكراتهم. وإذا كان هناك شبه إجماع على اعتبار الإصدارات المدونة لتجارب ومسارات أصحابها تعد شهادة حية من موقع الفاعل أو على الأقل الشاهد الحي على أحداث ووقائع عرفتها البلاد، فمن المهتمين من اعتقد أن ما تم تقديمه شكل فرصة لإماطة اللثام عن حقائق ظلت مغيبة، و فرصة لتمكين الباحثين، وخاصة المؤرخين من مادة للاشتغال في تفاعل منتج بين الذاكرة والتاريخ. بينما ذهب فريق آخر إلى القول إن الأمر لا يتجاوز في أحسن الأحوال تبييضا لصحائف اسودت وتلميعا لصورة تلطخت، أو تكريسا لوهم الزعامات والقيادات، أو تصفية لحسابات والبحث عن إعادة تموقع للذات، أو على الأقل إعادة الاعتبار لها، بقطع النظر عما إن كانت في أوج الطموح أو مالت إلى الأفول وبلغت من العمر أرذله.
الكتابة مثل أي سلوك بشري واع ومفكر فيه لا تأتي اعتباطا، وتوقيتها وزمن إخراج التدوين من حضن اليراع إلى سوق القراءة لا يترك للصدفة. فومنتسكيو، المؤسس الحقيقي لعلم السياسة، لم يعمل سنة 1734 على إصدار كتابه عن تاريخ الرومان من أجل ترف فكري زائد أو حتى لمجرد حبه للتاريخ، وإنما ليوجه من خلاله رسالة إلى لويس الرابع عشر، مفادها البحث في تجربة روما عن نموذج بديل لواقع غير راض عنه. وعندما قررت فرنسا في الثامن من غشت سنة 1840 تكليف المستشرق الشاب من أصول إيرلندية بارون دوسلان بترجمة أعمال العلامة عبد الرحمان بن خلدون، ورصدت له ميزانية قدرت بثمانية ألف فرنك، لم يكن ذلك من أجل تكريم صاحب المقدمة والتعريف بأعماله، بل لحاجة ماسة لفهم طبيعة العمران البشري ببلاد المغارب التي تم الشروع في احتلالها، وتتبع أخبارها وسير رجالها عبر متون العبر.
وهو المشروع الذي طورته بشكل كبير، على المستوى المغربي، البعثة العلمية مع مطلع القرن العشرين.
كتابة المذكرات لا تخرج عن هذا المنحى، فهي محكومة بكل تأكيد بهواجس أصاحبها وانتظاراتهم، ناهيك عن تعقيدات الذاكرة وعيوبها التي ترخي بظلالها على الشهادة/الرواية، التي قد يتوهم صاحبها أنه خلع عباءة الراوي/الشاهد وارتدى جلباب المؤرخ/المحقق. تلك إحدى المعيقات الأساسية، وجوهر الالتباس، خاصة عندما يعمد الشاهد إلى مطالعة كتب التاريخ أو مذكرات من سبقوه إلى الكتابة عن مراحل عاشها شاهدا أو فاعلا، فيعمد للكتابة من موقع ملتبس ذاكرة/تاريخ.
أفرد تيزفيتان تودوروف كتابا قيما لما أسماه بـ«إساءات استعمال الذاكرة»، وهو عنوان عمله. وتوقف بول ريكور مليا عند ثلاثية الذاكرة والتاريخ والنسيان في مؤلف بعنوان جامع لهذا الثلاثي، ولما انتهى إلى معالجة المستوى الأخلاقي- السياسي لما أسماها بالذاكرة الملزَمة نبه إلى «أن الشعور بواجب تنفيذ أمر لا يؤخذ كل معناه إلا بالنسبة إلى الصعوبة التي تواجهها مجموعة أهلية أو أجزاء جريمة من الجسم السياسي بأن تستعيد ذكرى هذه الأحداث بطريقة هادئة وبلا إثارة. نحن لا نستطيع أن نتكلم عن هذه الصعوبات بطريقة مسؤولة قبل أن نكون قد مررنا بالسهول الجافة لابستيمولوجيا المعرفة التاريخية وبلغنا منطقة الصراع بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية، الذاكرة التاريخية، في تلك النقطة حيث تواجه الذاكرة الحية للباقين على قيد الحياة النظرة الثاقبة والنقدية للمؤرخ، هذا إن لم نقل شيئا عن نظرة القاضي. في نقطة التصادم هذه يتبدى واجب الذاكرة مفعما بالالتباس، أن الأمر بالتذكر قد يُسمع وكأنه دعوة موجهة إلى الذاكرة لتختصر عمل التاريخ».
للذاكرة ثقوبها وعيوبها، ليس أقلها النسيان والتماهي مع الخيال والانتقائية وتضخم الأنا، ويميز فيها ريكور بين الذاكرة الاصطناعية والطبيعية، وداخل هذه الأخيرة يتحدث عن المعوقة منها والمتلاعب بها والمأمورة بشكل سيء. والغاية ليس تحجيم أو إلغاء دور الذاكرة، لكن فقط تحليلها وكشف عيوبها حتى لا تهيمن بشكل سلبي على حقل التاريخ، إن اختصارا لدوره، أو في أحسن الأحوال مده بمادة مغشوشة ومشكوك في مصداقيتها.
قد يعمد صاحب المذكرات إلى تسفيه أو تخوين الآخرين، فهل معنى ذلك أنه يقول الحقيقة ويكتب التاريخ، أم أنه يدون شهادته ويقدم تجربته، المحكومة بحساباته ونزوعاته وموقعه في التجاذبات المؤطرة لمشاركته في المسار والأحداث موضوع الشهادة؟ يكفي أن نقرأ مثلا بعض مذكرات من قدموا شهاداتهم عن تجربة ما (حروب، معارك، مقاومة، نضال، اعتقال…) لندرك حجم الصراع حول تملك الذاكرة والماضي بآليات وسبل مختلفة، قد تبتدئ باحتكار البطولة ولا تنتهي بتقزيم أدوار الآخرين. لذلك تبقى المذكرات شهادة عن تجربة بقطع النظر عن نية صاحبها وغرضه من تقديمها، وتبقى كتابة التاريخ شيئا آخر، مختلفا تماما، رغم ما يبدو بينهما من تشابه، مادامت الأولى محكومة بالأنا الشاهدة والثانية محكومة بضوابط البحث والنقد والتدقيق والتمحيص، والحقيقة في كلتا الحالتين نسبية، إذ هي في المقام الأول حقيقة الذات صاحبة الشهادة وفي المقام الثاني حقيقة مختبر المؤرخ.
الطيب بياض
مستشار علمي بهيئة التحرير