ما تنفك العولمة تخلخل في العمق منظومة الريع، المراوحة، من جهة، في فضاءات بدائية وسافرة، تنتجها شروط “الحكومية” التقليدية، وفي فضاءات غير مسبوقة وخفية، تعيد إنتاجها آليات “الحكومية” الحديثة. لابد لهذا التناقض أن ينفك، وقد يتم ذلك، في هذا المنعطف التاريخي غير المسبوق، بالتغيير الحقيقي الذي هو الطريق الملكي نحو الاستقرار والاستمرار.
يميز المفكر الأمريكي ميكايل والزر، في كتابه (Sphères de Justice)، بين أربعة “دوائر” مختلفة، ومتشابكة، ومتفاعلة فيما بينها، تشكل المنظومة المتكاملة للسلطة الجوهرية. هناك، على سبيل المثال لا الحصر، السلطة السياسية، والسلطة الاقتصادية، والسلطة المالية، والسلطة المعرفية، والسلطة الدينية، إلى غير ذلك. بالنسبة إلى الفلسفة السياسية المعاصرة يمكن، بحسب هذه النظرية، قياس الإنجازية الديمقراطية والتوازن السياسي، تحديدا، بمعيار الفصل بين دوائر السلطة، وبمدى استقلالية كل دائرة عن الدوائر الآخرى. وبالعكس، يؤشر التداخل بين الدوائر وهيمنة دائرة على أخرى، الدائرة السياسية على الدائرة الاقتصادية على سبيل المثال، على اختلال في بنية الدولة، واختلال في التوازنات المؤسسة للمجتمع.
من هذا المنظور النظري، فإن ما قد يميز الدولة العميقة في بلادنا منذ نشوئها إلى الآن، أي منذ أمد طويل، هو التداخل العضوي الذي حصل تاريخيا، منذ الأصل، بين الدوائر كافة، السياسية، والدينية، والاقتصادية، والعلمية، أي الفقهية، وتركيزها في أيدي ما أمسى يطلق عليه، جزافا أو اختزالا، “السلطة المخزنية”. هي سلطة سيادية واستعلائية، تكثف جوهر السلطة، وتقوم على مركزية القرار، وتمثل، أفقيا وعموديا، صلب العلاقة القائمة بين الدولة والمجتمع. وهي المنظومة التي ما تزال قائمة إلى اليوم، من حيث المضمون لا الشكل بطبيعة الحال.
حتى الحماية الأجنبية لم تغير من جوهر هذه المنظومة التي استطاعت أن تستوعب الصدمة الكولونيالية، وتستدخل بعض المظاهر والأنماط التي تقوم عليها الدولة الحديثة، دون المساس بالنواة الصلبة لمنظومة “المخزن”. “لابد أن يتغير كل شيء، لكي لا يتغير أي شيء”، بالعبارة التي جاءت على لسان أحد أبطال فيلم “الفهد” ( Le Guépard) للمخرج الكبير فيسكونتي.
في المقابل، ينبغي التنويه إلى أن الفرضية التي تقول بهيمنة الدولة على المجتمع، بالنسبة إلى الحالة التي نحن بصددها، تحتاج إلى إعادة نظر في صوابيتها. ذلك أن هذه الفرضية تقوم على أساس الهيمنة المطلقة والشاملة والأحادية الجانب للدولة، المختزلة كما سبقت الإشارة في المؤسسة “المخزنية” أي الدولة المتحكمة في مفاصل المجتمع، والجاثمة على أنفاس الناس أفرادا وجماعات، أحزابا ومؤسسات مدنية، هذه الفرضية تحتاج على الأقل إلى شيء من التنسيب. ولعلنا نجد في كتابات جيل دولوز وميشيل فوكو مفاهيم هامة لإدراك القوة، قوة التأثير والفعل، الكامنة في ما يسميانه “السلطات الوحدية”، أو “الميكرو سلطات” (Micro-pouvoirs). سلطات لها قدرة التأثير والفعل، أفقيا، في مؤسسات المجتمع وشبكاته، وعموديا، في هياكل الدولة المركزية وفي آليات بلورة القرار السياسي.
نور الدين العوفي
تتمة المقال تجدونها في العدد 2 من مجلتكم «زمان»