أنشد الشاعر المصري الراحل أحمد فؤاد نجم ذات يوم قائلا: «رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد تاني، يا مصر إنت اللي باقية وإنت قطف الأماني، لا كورة نفعت ولا أونطة، ولا المناقشة وجدل بيزنطة». ولعل هذا الشاعر الشعبي، الذي عشق الكرة في صغره، كان يدري جيدا، بعمقه الفكري وحسه السياسي، كيف تحولت كرة القدم من مجرد لعبة صحية، محكومة بمنافسة شريفة ومقننة بضوابط تكفل المتعة والاستفادة وخلق أجواء المرح، إلى أداة ليس فقط لإلهاء الشباب عن الانخراط الجدي في قضايا عصره، بعد أن تغير لديه سلم الأولويات، وصارت مباريات البارصا أو الريال جزءا من حديثه اليومي بل وربما محددا في برامج عمله أو سفره، بل تحولت إلى مقاولة كبرى تنشط في المصالح والصفقات بدء بحقوق البث، والسعي لاحتكاره، مرورا بالدعاية والوسطاء، وليس انتهاء بملابسات اختيار البلدان المنظمة للتظاهرات الكروية.
أن تكون الرياضة عموما، وكرة القدم على وجه الخصوص، في قلب صراع المصالح، وتتأثر بمتغيرات العصر، وتستغل في تمرير المواقف، فذاك كان ديدنها منذ مطلع القرن الماضي على الأقل. ألم تعش تظاهراتها المختلفة على وقع تموجات الحربين العالميتين؟ ألم يعمل كل من موسوليني وهلتر على استغلالها للدعاية للمشروعين الفاشي والنازي، الأول أثناء تنظيم كأس العالم بإيطاليا سنة 1934، والثاني أثناء تنظيم الألعاب الأولمبية ببرلين سنة 1936؟ ناهيك عن تحكم حسابات الحرب الباردة في موقف المقاطعة في أولمبياد موسكو 1980 ولوس أنجلوس 1984 بين الغريمين السوفياتي والأمريكي.
قد تكون كرة القدم متنفسا وأداة امتصاص غضب، أو آلية لاحمة لشعور وطني، قد يتقوى بمشاهدة مباراة يخوضها المنتخب الوطني. قد يبدو هذا الأمر عاديا بالنسبة لدول لا تعيش تمزقا بين مكوناتها، لكن قد يعني الشيء الكثير لمن يعيش خارج الوطن، أو بالنسبة لبلدان إفريقية لا يشعر كافة أبنائها بالانتماء إلى الوطن الواحد، ولا يصطفون خلف العلم والنشيد الوطنيين إلا خلال المدة التي تستغرقها مباراة فريقهم الوطني مع فريق آخر، قبل أن يعودوا للتمترس خلف انتماءاتهم وولاءاتهم الإثنية والعرقية والطائفية. لكن ذلك لا يعني أن الحماس الوطني بدوره غير متحكم فيه، وغير موجه لخدمة أغراض ومآرب. فبين اندفاع وعفوية الجمهور وحسابات الساسة وأصحاب المصالح، قد يتوارى مطلب الفرجة والمتعة والصحة فاسحا المجال لغايات في نفس من لهم فيها مآرب أخرى.
انتشر وباء ايبولا مؤخرا وملأ الدنيا وشغل الناس، وقبله كان جنون البقر، وحمى الخنازير، وأنفلونزا الطيور… وبقطع النظر عن مصدر هذه الأوبئة والفيروسات، وزمن ظهورها والقضاء عليها، ومن المتحكم فيها، ومن المستفيد ومن المتضرر من ظهورها وانتشارها، فإن تداعياتها ونتائجها الكارثية غالبا ما تطال الدول الفقيرة بالأساس، بعد أن تحولت إلى ما يشبه مختبر تجارب لهذه الأوبئة، ولأنواع الأدوية المقترحة لعلاجها.
عانى المغرب عبر تاريخه، على غرار دول أخرى، من هجوم أوبئة مختلفة، فتكت بساكنته (انظر العدد الثاني عشر من مجلة زمان). وأغلب هذه الأوبئة كانت ذات مصدر خارجي، وكان الحجر الصحي، خاصة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، إحدى آليات الوقاية والصد في وجه الأوبئة الوافدة على البلاد، سواء من جهة الشرق أو الشمال.
هذه المرة جاءنا الوباء من الجنوب، ولم تبادر شركة الطيران لدينا، إسوة بشركات أخرى، إلى مراجعة رحلاتها إلى الدول التي انتشر فيها الوباء بقوة. مما أثار المخاوف والشكوك، بل إن بعض وسائل الإعلام الغربية، صارت تتحدث عن ضرورة مراقبة الرحلات القادمة من المغرب. تعقدت الأمور وأخذت منحى تصعيديا عندما اقترن الوباء بكرة القدم، والمناسبة طلب المغرب تأجيل بطولة كأس إفريقيا للأمم، المزمع تنظيمها على أرضه مطلع السنة المقبلة.
تنظيم البطولة الإفريقية في زمن الإيبولا على أرض المغرب، يعني أن الوباء سيندس لا محالة داخل ركب الجمهور الكروي القادم من الجنوب، كما اندس بالأمس بين ركب الحجيج القادم من الشرق. ولتفادي انتشار هذا الوباء سارعت دول إفريقية إلى إلغاء العديد من التظاهرات الرياضية والاقتصادية والثقافية والفنية، في كل من بوركينافاسو والسنغال والتشاد والكوت ديفوار وغينيا وغيرها. بل إن أندية أوربية لم تترد في إخضاع لاعبيها الأفارقة، الذين زاروا بلدانهم المصابة بالوباء، ليس فقط للفحوصات الطبية الضرورية، بل لما يشبه العزل الصحي، ناهيك عما تعرضت له فرق البلدان المصابة بالوباء من إهانات وتضييق كل ما حلت ببلد آخر. فلماذا ثارت ثائرة الكاف عندما تعلق الأمر بطلب المغرب تأجيل البطولة الإفريقية؟ هل مصدر الغضب والتهديد والوعيد منطلق أبوي عطوف على جمهور إفريقي سيحرم من الفرجة والمتعة؟ أم أن المصالح العابرة للحدود، إشهارا وبثا تلفزيا وعائدات ومآرب، الخفي منها أكثر من الظاهر، هي من يتحكم في حشر جمهور في مدرجات حتى لو أدى الأمر إلى تحول الفرجة إلى مأتم؟ المهم أن لا يخسر المستثمرون في مقاولة الكرة، في انتظار أن يرجع التلامذة للجد مرة ثانية، على رأي الشاعر أحمد فؤاد نجم.
الطيب بياض
مستشار علمي بهيئة التحرير