من شدة تعلقنا بالبطاطا، يصعب أن نقتنع بأنها لم تكن موجودة في المغرب، ونظن واهمين أنها جزء من هويتنا، وأننا أول من اخترعها وزرعها، وصنع منها مرقا بالزيتون والليمون المرقد.
وقد حاول المهندس الزراعي الفرنسي «إميل مييج»، المتخصص في الفلاحة الكولونيالية (1969-1880) جاهدا أن يبحث عن أصل لها في المغرب، لكنه لم يعثر على أثر قديم لها في تربتنا، وقد ذكر في مقال له، نشره عام 1935 في إحدى المجلات المتخصصة أنه «لا توجد، للأسف، أي وثيقة قديمة عن أصل البطاطا في المغرب، وقد حدد منشور للسيدة دو گاست وجودها فقط في حدائق طنجة عام 1908، كما تحدث كاتب إنجليزي في سنة 1883 عن الپوطاطو المستخدمة في الوجبات المغربية».
وجل ما توصل إليه هو أن «أصولها قديمة في البهاليل، قرب فاس، ومن المحتمل أن يكون جاء بها عبيد مسيحيون»، أو حملها معهم الإسبان والبرتغاليون أثناء احتلالهم للمغرب، أو بحارة حطوا في سواحلنا، وباعوها أو قدموها هدية لأجدادنا.
وفي نهاية القرن التاسع وبداية القرن العشرين، كانت البطاطا ما تزال نبتة غريبة، وكان المستعمر الفرنسي يجرب أنواعها التي تناسب المناخ المغربي، ويعاني من سرعة فسادها وتعرضها للتلف بسبب الحرارة، إلى أن استعمل هذه الفصيلة، التي نلتهمها اليوم، ونعتقد أنها ولدت معنا، وأنها هي الأخرى أمازيغية، أتت من اليمن والشام عن طريق الحبشة ومصر، واستوطنت الكهوف والمغاور.
ويبدو أن المهندس إميل مييج استكثر علينا هذا الوله بالبطاطا، وحاول بتأثير نظرته الكولونيالية المستعلية، أن يقول إن الفضل في اكتشافها في المغرب يعود إلى عبيدنا المسيحيين، رغم أن لا أحد في العالم كان يعرف هذا النوع من الخضر، قبل غزو الإسبان لأمريكا الجنوبية، التي تعتبر موطنها الأصلي.
ومن خلال الأبحاث العلمية والتاريخية التي قمت بها، فقد استنتجت أن الذي أحضر معه أول حبة بطاطا هو مغربي مسلم، وسني ملتزم بالعقيدة الأشعرية وبفقه مالك وبطريقة الجنيد السالك، وكان شابا بحارا، ذهب مع الأسطول الإسباني في القرن السادس عشر على ظهر سفينة، وحط معهم في بوليفيا، وهناك أغرم بفتاة من هنود الإنكا، وتزوج بها، وقدم له والدها كيس بطاطا، وعلمته والدتها كيف يغرسها ويطبخها، كي يضمنا أن لا تجوع ابنتهما، بعد رجوعها معه إلى المغرب.
وحين عادت أول سفينة إلى إسبانيا، صعد فيها الشاب المغربي وحرمه المصون، حاملين معهما كيس البطاطا، واستقرا في مدينة طنجة، وزرعاها في حدائقها، وأنجبا بنينا وبنات، اشتد عودهم بأكلها مسلوقة ومشوية وبالمرق واللحم والزيتون، وهي التي انتبه إلى وجودها ذلك الكاتب الإنجليزي، وذكر أنه شاهدها في حدائق طنجة.
وبعد ذلك، انتقل الأولاد إلى مدن وقرى مغربية أخرى، وكلما حطوا بأرض، عرفوا أهلها على البطاطا، وشرحوا لهم كيفية غرسها، وطريقة طبخها، إلى أن صارت وجبة المغاربة المفضلة، في دكالة وعبدة والحوز وسوس والريف والشرق، وفي كل مناطق المملكة.
وما لم ينتبه إليه المستعمر الفرنسي، ومهندسوه وعلماؤه ومؤرخوه، الغارقون في نزعتهم المركزية الأوربية، المبنية على فكرة التفوق الغربي المسيحي، هو أن حبنا للبطاطا، هو في حقيقة الأمر نتيجة زيجة ناجحة بين شاب مغربي وفتاة من بوليفيا، وأن الحب الذي كان قائما بينهما، وتقديسمها لهذا النوع من الخضر وارتابطهما به، قد أصاب بعدواه جميع المغاربة، ولذلك نلاحظ، وإلى غاية اليوم، أن كل من يلتهمها منا، يشعر بالدفء وبما يشبه العشق، ويغرق أصابعه في المرق، فتخرج صفراء، ومهما ضجر منها وملها، فإنه يعود إليها، ولا يصبر على فراقها.
ولأن ذلك المهندس الفرنسي مغرض، وهو الذي اشتغل لسنوات في المغرب، وجرب زراعة كل أنواع الحبوب في أراضينا، حتى أطلقوا عليه لقب «أبو القمح»، فإنه لم يذكر ولو كلمة واحدة عن براعتنا في طبخ البطاطا وإعداد وجبات متنوعة بها، مكتفيا بالبحث عن أصل مسيحي لها، كما أنه لم يتطرق إلى قومه الذين يأكلونها لبدائيتهم بقشرتها، ولم يقل إنها أنقذتهم في الماضي من المجاعة، وأنكر علينا أننا أول شعب قشرها، وتفنن في تقطيعها إلى دوائر وأشكال هندسية مختلفة، وأول من غامر وأرسلها إلى بطنه حارقة، وتشتعل فيها النار، دون أن يصيبه أي أذى.
لكن السؤال الذي حيرني وأنا أبحث وأنقب في هذا الموضوع المتعلق بالبطاطا، بعد تأكدي من أن المغاربة لم يكونوا على علم بوجودها، كما هو حال غيرهم من الأقوام، وأن اكتشافنا لها ليس قديما، هو ماذا كنا نأكل قبلها، وكيف كنا نعيش في ظل غيابها عن مطبخنا، وهل يمكن لأحد أن يتخيل هوية مغربية خالية من البطاطا، ومن هذا المكون الأساسي الذي يشكل جوهر وجودنا، ويمنحنا كل هذا التميز، وكل هذا المرق الأسطوري.
حميد زيد