انطلقت دينامية الاحتجاج، في إطار ما أصطلح على تسميته بالربيع العربي، من تونس مع نهاية سنة 2010، وسرعان ما انتقلت شرارتها إلى عدة بلدان مجاورة، فحصدت في طريقها عدة أنظمة (تونس، مصر، ليبيا، اليمن) واتسمت بالعنف والعنف المضاد بين قوات حفظ النظام والمتظاهرين، مع اختلاف وتفاوت في حدته بين بلد وآخر.
ولما تجاوب الشارع المغربي مع هذا الحراك العربي، بمبادرة من حركة 20 فبراير، بدا لافتا حرص المتظاهرين على عدم اللجوء للعنف، حتى وإن بادرت القوات العمومية إلى تعنفيهم.
والواقع أن هذا النضج في أسلوب التظاهر يعكس تملكا لثقافة في الاحتجاج السلمي لم تأت من فراغ، بل حصيلة تراكم شارح ومفسر لهذا النضج.
فأول خروج للتظاهر والاحتجاج ضد الحيف والشعور بالغبن والدونية خلال الفترة المعاصرة من تاريخ المغرب يعود إلى سنة 1873 في انتفاضة عرفت بعيطة بلمدني بنيس، كناية على اسم أمين الأمناء الذي اشتط في فرض الضرائب، فثارت عليه مختلف شرائح مدينة فاس، وهاجمت منزله ونهبت محتوياته، في تحرك تزعمه الدباغون، واعتبره المرحوم محمد المنوني أول ثورة عمالية بالمغرب. ولما خضعت البلاد للاستعمار أبدع الوطنيون المغاربة أساليب شتى في الاحتجاج والتظاهر السلمي عبر العريضة والمنشور والنزول للشارع في عدة مناسبات (الظهير البربري، وثيقة المطالبة بالاستقلال، اغتيال فرحات حشاد…).
بعد حصول المغرب على الاستقلال، كان طبيعيا أن ينتظر المغاربة تحسنا في ظروف عيشهم وصيانة لكرامتهم وحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، لكن أفق انتظارهم تكسر على صخرة مجموعة من الاختيارات، قادتهم، بعد فترة سماح منحوها للحكومات المتعاقبة طلية عقد من الزمن، إلى الخروج يوم 23 مارس 1965 للاحتجاج بمدينة الدار البيضاء، فواجهوا العنف الذي جوبه به احتجاجهم بعنف مضاد أدى إلى وقوع أضرار في الممتلكات الخاصة والعامة، ناهيك عن سقوط العديد من الضحايا. وتكرر المشهد نفسه إثر الأحداث التي شهدتها نفس المدينة في يونيو 1981، ثم مراكش ومدن الشمال في يناير 1984، وأخيرا فاس يوم 14 دجنبر 1990.
قد يفهم هذا العنف الملازم للاحتجاج من طرف المتظاهرين كرد فعل في زمن كانت القوى المحركة للفعل الاحتجاجي متشبعة بفكرة العنف الثوري الذي كان خيارا لمعسكر دولي بأكمله زمن الحرب البادرة، وقد يفسر، أيضا، بقوة وزخم الحشد الجماهيري الذي كانت هذه القوى قادرة على تعبئته. لكن يبقى أن ظهور معطيات جديدة أسهمت في تراجع خيار مواجهة العنف بالعنف لفائدة نوع جديد من التأطير للاحتجاج في الشارع العمومي ينزع للسلمية في مواجهة العنف إن وقع.
فمن جهة أطلقت الدولة العديد من المبادرات، التي أدت إلى تخفيف جو التوتر والاحتقان، من قبيل إطلاق سراح المعتقلين السياسيين والمحتجزين وعودة المنفيين، خلق مجموعة من المؤسسات المهتمة بالشأن الحقوقي والسعي لجبر الضرر، الدخول في تجربة التناوب سنة 1998… وعلى الجانب الآخر كانت القوى المحركة للاحتجاج قد تعرضت للإنهاك جراء عوامل متعددة، وظهر داخلها توجه أسس إطارات جمعوية فاعلة أبرزها تنسيقيات مناهضة غلاء الأسعار وتدهور الخدمات، والتي بلغ عددها سنة 2007 حوالي 90 تنسيقية، لتعلن عن تحول نوعي في الانتقال من الاحتجاج في الساحات العمومية المألوفة إلى الوقفات الاحتجاجية في الأحياء الشعبية، مع خلق لجنة للمتابعة الوطنية، ومحاولة تجاوز منزلقات الحركات الاحتجاجية السابقة؛ بالتركيز على الرهان الاجتماعي دون مغالاة في الخطاب السياسي، ومحاربة كل محاولات الهيمنة الفوقية.
هذا في وقت كانت فيه حركة المعطلين قد راكمت حضورا قويا في الشارع العمومي، و«استأنست» الساحة المقابلة للبرلمان بالرباط بالفعل الاحتجاجي الذي صار عاديا وشبه يومي. فكان من نتائج هذه المتغيرات وهذا التراكم تحول الإضراب أو الاحتجاج في الشارع العمومي المغربي من فعل موسوم بميسم العنف والتخريب إلى سلوك حضاري للتعبير عن الرفض والمعارضة للسياسات العمومية المتبعة. وبالتالي كان طبيعيا، عندما وصل صدى الحراك العربي إلى المغرب سنة 2011، أن ترفع حركة 20 فبراير بشكل متواتر شعار «سلمية سلمية»، كلما همت القوات العمومية بالتدخل العنيف لتفريق تظاهرتها، كتعبير عن نضج في التعبير السلمي عن مواقف متفاوتة بين مكوناتها، لكن الجامع بينها هو الحرص على أن لا تنزلق الأمور إلى رد العنف بمثله.
الطيب بياض