يستقبل المغاربة هذه السنة شهر يونيو/ حزيران على وقع متغيرات محلية وإقليمية تستدعي استحضار التاريخ وعِبره. فالشهر الذي ودعناه عرف سجالات سياسية كشفت شكلا من الخطاب، يعكس مستوى من القيم والسلوكات التي صارت تؤثث المشهد السياسي المغربي، كما عرف نفس الشهر، وفي سابقة من نوعها، استنكاف النقابات عن تخليد عيد العمال العالمي، يوم فاتح ماي، وتوعدت الحكومة بمزيد من التصعيد المستمر، وعلى المستوى الإقليمي شهد الشهر الفارط فقدان المغرب لأحد أبنائه من ربابنة الطائرات المشاركة في حرب اليمن.
في 18 من شهر يونيو سنة 1954 كان المقاوم محمد الزرقطوني، وهو المؤتَمن على كثير من أسرار المقاومة المسلحة بالمدن المغربية ضد الاستعمار، قد فضل الشهادة والتضحية بحياته ليستمر الآخرون على قيد الحياة، والأهم أن يستمر الوطن بعد أن يصير حرا. كان الشهيد الزرقطوني يعكس بذلك قيما وممارسة سما بها وسمت به إلى مصاف النبل ونكران الذات في العمل الفدائي، لكن بخلفية ووعي سياسي شعارهما التضحية، حيث كانت السياسية تعني الصدق في الأداء والعمل النبيل من أجل غد مشرق للوطن قبل الحزب أو المنظمة أو الفرد.
بعد 27 سنة على حادث استشهاد الزرقطوني بالدار البيضاء، ضربت نفس المدينة موعدا، يوم 20 يونيو 1981، مع حدث مؤلم نُقش في الذاكرة الجماعية باسم «شهداء كوميرا»، الذين لم يكونوا في الواقع غير أصوات انتفضت على تكسير أفق انتظار من ثمرات الاستقلال بعد طول نضال وانتظار، وبعد دق ناقوس خطر في وقت سابق، صبيحة يوم 23 مارس 1965. ألم يقل روم لاندو، في بداية الستينات من القرن العشرين، «إذا غدت الدار البيضاء عما قريب مسرحا للصراع الاجتماعي والسياسي، فلا غرابة في ذلك مطلقا، وقد برهن سكان المدينة أيام معركة الاستقلال على بطولتهم ولكنهم ظلوا قابلين للاشتعال». انطلق الرفض والاحتجاج بفعل دينامية نقابية، تزعمتها آنذاك نقابة فتية، في مرحلة الوثوب، تدعى الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، اصطفت فعليا إلى جانب الشغيلة ورفعت سقف المطالب واستنكرت الزيادة في الأسعار، وإن كان تحركها معطوفا على رد فعل حزبي، سابق بثلاثة أيام، لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
على المستوى الإقليمي دخل العالم العربي منعطفا حاسما في تاريخ الصراع بالمنطقة، بعد هزيمة يونيو 1967، التي كشفت المستور، وأكدت أن للريادة أسساً وللوحدة قواعد. وأوضحت أن التقاء العرب في جامعتهم سنة 1945 افتقد إلى نهج الديمقراطية والبراغماتية ولغة المصالح، وأن الاتكاء على مخاطبة الوجدان واستحضار المشترك اللغوي والديني فقط ، لن يؤدي إلا إلى إنتاج ما هو هش، غير منتج، وقابل للانكسار، ولو بعد حين. ذلك أن المصير المشترك الذي جرى الحديث عنه، نهل فقط من هذا الفهم الوجداني، وأعرض عن الأساس العقلاني؛ إذ لم يستحضر ثلاثي الواقع الجيوسياسي والبناء المؤسساتي والتطور الاقتصادي، الذي قاد الأسطول السادس الأمريكي إلى عرض البحر الأبيض المتوسط منذ سنة 1949، ووجه أرضية روبير شومان للوحدة مع الغريم الألماني لتكون قاطرة لبناء صرح أوربي، صار ينافس الأمريكي حينا، ويتكامل معه أحيانا أخرى لإعادة إنتاج السيطرة، وضمان التشرذم في إقليم أسموه بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أضحى سوقا رائجة لأسلحتهم، بعدما تعطلت لغة الكلام بين مكوناته لفائدة خيار الصراع والحرب.
ما تعيشه الحياة السياسية المغربية اليوم من ملاسنات وتعالي الأصوات بالصراخ والشتائم فيما يشبه صراع الدِيَكَة أحيانا، عوض صراع البرامج والأفكار، يشي بأن القيم التي تشربها الوطنيون المغاربة واستماتوا في الدفاع عنها حتى الشهادة، توارت فاسحة المجال لتبخيس العمل السياسي. وبينما قُدر للعمل النقابي في المغرب أن يكون ملحقا للعمل السياسي، يوظفه حينا ويعاني من هزاته الارتدادية أحيانا أخرى، كان الشارع المغربي كثيرا ما يتفاعل مع مختلف الديناميات، نقابية كانت أو سياسية، حين يجد ذاته فيها. فبعد أن تداعى للاحتجاج في الشارع العام، إثر وصول العمل البرلماني إلى عنق الزجاجة بعد ملتمس رقابة سنة 1964، عاد وكرر الأمر بعد أن عجز الحوار الاجتماعي في تنفيس الاحتقان، إثر الزيادة في الأسعار، والدعوة إلى الإضراب العام في يونيو 1981. في هاتين المحطتين كان للعمل السياسي بريقه، وللفعل النقابي جاذبتيه، أما وأن تحول عدد النقابات إلى نفس عدد الأحزاب، فلا غرابة أن تخبرنا أرقام المندوبية السامية للتخطيط، أن ما حصل عليه هذا الفسيفساء النقابي مجتمعا، لم يتجاوز 3% من المنخرطين في صفوف الشغيلة المغربية. يحصل هذا في بيئة إقليمية صارت شبيهة بالرمال المتحركة، زادتها تداعيات ما بعد «بنعلي هرب» اهتزازا. فتراجعت فعالية العمل المدني المنتج، في ظل صعود كتل بشرية محروثة داعيشيا، تكفر أصلا بالعمل السياسي والنقابي، وتترجم عمليا قول الشاعر أبو تمام:
السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ.
وهي اللغة التي صار يتقنها القوم أكثر اليوم، من جبل الشعانبي في تونس إلى الموصل في العراق، ومن عدن باليمن إلى جسر الشغور بسوريا.
الطيب بياض
مستشار علمي بهيئة التحرير
موضوع يربط القاصي بالداني بطريقة محبوكة بمهارة مؤرخ محلل للأحداث .باسلوب يجمع بين السرد التاريخي والتحليل المنطقي .ونشتشعر حضور مؤرخ بجبة أديب .اختار الكاتب عنوانا فنيا استوحاه من المصطلحات المشرقية. فأعطى الموضوع إثارة تجدب القارئ لاستقراء ما بين السطور واستشعار الأحداث والاستمرارية…ربط حزيران او شهر يونيو بالمتغيرات التي مرت على الجغرافية العربية..وأعطى للكفاح عبقا تاريخيا مثيرا . تفخر بسرده الذاكرة. و ابرز المفارقة بين الماضي والحاضر .هذا الحاضر الذي أصبحنا للأسف نحاول اتقاء شره وطي ثقافة النضال فيه مع ازدياد لغة الدم وانحراف نسائم الربيع العربي الى أعاصير هوجاء دمرت كل شيء ..و ريادة السياسة الشعبوية عالميا…
واقترن العمل السياسي في عالمنا العربي بالنقاش العقيم الفارغ من محتواه…كما ارتبط النضال النقابي بالصراعات الحزبية.التي أضحت لغتها السياسية تماهي المصالح الشخصية على حساب المعنى الحقيقي للوطنية.