ليس قول شخصيتين مؤثرتين لها سجل حافل من النضال والتفكير والارتباط بمرجعيات فكرية وتتبع الشأن العام، هما محمد اليازغي وإسماعيل العلوي حول الوضع الحالي، مما قد يُستخف به أو لا يُحمل محمل الجد. عبّر الأول عن تشاؤمه حول المستقبل، ولم يُخفِ الثاني تخوفه مما قد لا تحمد عقباه. وقد نضيف أن ما عبرت عنه الشخصيتان البارزتان قد يكون جهارا ما يعبر عنه البعض همسا. الوضع السياسي ما نعلمه، من تشرذم واختزاله في تدبير مسارات فردية، و”الآمرون بالمعروف” أمس باعوا دينهم بدنياهم، ونسوا خطابهم، واللجاجة السابقة في التعزير (بالراء)، أضحت اليوم لجاجة في التبرير. والخطاب السياسي بلا نكهة. والوضع الاقتصادي تحت رحمة السماء، ومَنّ بعض “الأخوة” مما أفاء لله عليهم، يخاطبوننا من وراء حجاب تغريدات التوتير، ويخبروننا، أصلح لله بالهم، وسدد خطاهم، عن أن وضع المجاملات قد ولى ولمّا تمضِ سنتان وقد قيل على رؤوس الأشهاد: ما يمَسّكم يمَسنا. والوضع الاجتماعي يزداد سوءا، في غياب خطاب مهيكَل، ووسائط تأخذ على عاتقها التعبير عنه وعن الشرائح المتضررة، وفي غياب بدائل، أو وجود أي إرهاص جهد للتفكير في البدائل، رغم الدعوة بل الدعوات المتكررة للتفكير في بديل تنموي. والتحلل الأخلاقي ضارب أطنابه، ومنه محاولات الاغتصاب جهارا في واضحة النهار. والشأن الثقافي يتأرجح من مقاربة طائفية يُروَّج لها كما لو هي الفتح المبين، في مهرجانات المُتع، وكساد المنظومة التعليمية، مما يدخلنا فيما يسميه العالم الاجتماعي بيير بورديو بـ”طقوس الإصلاح”، التي تقضي على الإصلاح. والجسم الصحافي الذي عبر قبل عشرين سنة عن تحفز وهبّة، تحت الصدمة، وقد تشابه عليه الأمر. وتأهيل الخطاب الديني يُقدّم خطوة إلى الأمام، ويعود خطوتين إلى الوراء…
الشخصيتان امتلكتا الجرأة والشجاعة، وبقدر ما نكبر شجاعتهما وحصافتهما، نهمس لهما في رفق وأدب، ألاَ يحملان جزءا من المسؤولية فيما آل إليه الأمر؟ ألم يخلفا قطار “المنهجية الديمقراطية” في 2002، وتستترا عن الزيغ الأمني، والهيمنة التقنقراطية والانزياح المافيوزي (ولو أن الموضوعية تقضي أن إسماعيل العلوي حذر باكرا مما أسماه الملاقطية). ما يفيد هذا الذي يسميه الفرنسيون بارود الشرف، أن تطلق البارود وقد خلت ساحة المعركة، أو ما يعبر عنه هذا المثل باللغة العربية، دمعة من عوراء غنيمة باردة. ندرك دور النخب في تطور المجتمعات وبث الدينامية فيها، ولكن النخب ليست أوضاعا ولا أعيانا، في شكل جديد. النخب سواء الفكرية أو السياسية أو الاقتصادية لها تصور عن مجتمعها، وتبني فعلها وانخراطها بناء على هذا التصور. أذكر دوما هذا الاستشهاد الذي وظفه كوندرا عن أوديب حينما اكتشف أنه ضاجع أمه. لم يكتف بالقول إنه لم يكن يعرف، بل فقأ عينه، رغم أنه لم يكن مسؤولا عما اجترح لأنه لم يكن يعرف. نتحدث عن ربط الفعل بالمحاسبة. تلك ثقافة إغريقية، أما ثقاتنا نحن، فعفا لله عما سلف، «وقولها واضحك عليها، واضرب الصغير باش يخاف الكبير، واضربو على التبن باش ينسى الشعير»، و«دُر مع الزمن كما يدور»، كما يقول أبو الفتح الأسكندري في مقامات الحريري، و«إيلا عطاتك الايام در كاتريام». و«لله ينصر من اصبح». يقول ألبر كامو في الهاوية: «من ذا يؤاخذني في عالم لا أحد يستطيع أن يزعم البراءة. حينما نكون كلنا جناة، فتلك هي الديمقراطية». نريد من عقلائنا أن لا يتوقفوا عند منتصف الطريق، أن يُجروا محاسبة على أنفسهم، تسبغ شرعية على قولهم، وتتيح له الانتقال من طرح القضايا العرضية إلى البنيوية. ومَن غيرهم يستطيع أن يطرح القضايا البنيوية في ظرفية نحن أحوج ما نكون لطرح القضايا البنيوية؟
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير