مضت أربعون سنة على اغتيال عمر بنجلون. باستثناء الحفل الذي نظمته عائلة وأصدقاء الشهيد، بهذه المناسبة في مدينة المحمدية، مرت الذكرى نسيا منسيا، بما لا يليق ومكانة الرجل في التاريخ المغربي الراهن. لا يتسع المقام للتذكير بسيرته، ومساهمته في صياغة وتنفيذ مشروع وطني طموح للتقدم، من خلال المنظمة الحزبية التي شارك في تأسيسها وقيادتها، فضلا عن النقابة والصحافة. كما لا يتسع المجال للتذكير بكل المحن التي عاشها دافعا ثمن هذا الطموح، وإن كان صموده مثيرا للدهشة. ظل عمر بنجلون صامدا طموحا بعد كل ما مر عليه من محن التعذيب والاعتقال… حتى دفع حياته ثمن أحلامه.
لعل ما يثير الدهشة، أيضا، في سيرة بنجلون تعمقه في التوضيح الإيديولوجي لأهداف التقدم وسبل إدراكها. حتى وهو وراء القضبان، استغرق هذا التوضيح حيزا هاما من مساهمته في التحضير لمؤتمر حزبه الاستثنائي سنة 1975… شهورا قليلة قبل الغدر به. بل إن واحدا من الخلافات الحزبية القليلة التي تظهر في سيرته، كان حول هذا التوضيح الإيديولوجي تحديدا. هذا ما يذكره، مثلا، محمد عابد الجابري في مذكراته “مواقف”، بصدد نقاشات بنجلون ومحمد جسوس ومحمد الحبابي حول التقرير الإيديولوجي لمؤتمر 1975.
لكل زمن رجاله ونساؤه، وقد تمضي أزمان لا رجال لها ولا نساء. لا معنى للمقارنات، لكن الحاضر يفرضها أحيانا. لا أدل على ذلك من تعلق الكثيرين بذكرى الغائبين. إن كان لا بد من المقارنة، فلنذكر مدى العناية التي كان يوليها دعاة التقدم، مثل عمر بنجلون، للوضوح الإيديولوجي في الميدان السياسي، وكيف تفتقد الكثير من دعوات التقدم اليوم لهذا الوضوح.
شاعت أنباء الحوادث التي أعقبت مباراة الرجاء والوداد أكثر من أنباء المباراة نفسها. منذ سنوات طويلة وأخبار الكرة في المغرب مقترنة بالهزائم والحوادث… باستثناء الفرجة التي تصنعها بعض الجماهير في مدرجات الملاعب. ليس ثمة ميدان أصدق تعبيرا عن أوضاع البلاد من ميدان الكرة. فيه تظهر اللامسؤولية في أجلى صورها. اللامسؤولية قرينة الفشل. فلا عجب إذن أن يرافق الفشل الكرة والرياضة المغربية، رغم تكاثر الأموال ومظاهر المعاصرة الشكلية. لا حاجة للعودة إلى الماضي البعيد لنتذكر أن المواهب المغربية تستطيع صنع الأمجاد في عالم الكرة. لنتذكر فقط سنة 2005 حين بلغت بلادنا الرتبة الرابعة في بطولة العالم للشبان. تلك البطولة التي فاز بها أصدقاء لاعب أرجنتيني شاب آنئذ هو ليونيل ميسي. أين وصل أصدقاء ميسي اليوم، وأين ضاع طارق بندامو، أو يوسف رابح، أو محسن ياجور…! هذا منتخب وطني للشباب أقل من 20 سنة يصل المربع الذهبي لبطولة العالم قبل عشر سنوات فقط، ثم يتبخر كأنه لم يكن. كيف يعقل أن يغرق بلد وصل لهذه القمة في وحل الهزائم المتتالية؟
للصدفة والاتفاق دور في تحديد نتيجة مباراة في الكرة، لا شك في ذلك. لكن الأكيد أيضا أن الانتصارات لا تتأتى إلا بالتخطيط العقلاني. العقلانية تفترض التقييم المستمر للاختيارات، وهذا يقتضي المسؤولية. مسؤولية صاحب القرار. نفس المنطق الذي تنبني عليه الديمقراطية العصرية.
كان واردا، في الماضي، أن تبلغ بلدان غير ديمقراطية القمة في الكرة أو غيرها من الرياضات. اليوم، مع استثناءات قليلة وفردية في الغالب، لا تكاد تبلغ هذه القمة سوى البلدان الديمقراطية. ليس في الأمر أي سر، إذ المسؤول في النظام الديمقراطي، أيا كان مستوى مسؤوليته معرض للمحاسبة، فيرتهن مستقبله المهني والسياسي بهذه المحاسبة. لا يبقى أمامه أي مجال للارتجال، أو الاستخفاف بالمسؤولية. حتى الأندية الأوربية المنظمة على نمط المقاولات التجارية لا يسلم ملاكها من محاسبة الرأي العام ممثلا في المنخرطين والجماهير.
لا يرتهن المسؤول، في النظام الديمقراطي لضميره فقط، ولا لمصالحه الشخصية أو مصالح بطانته، بقدر ما يرتهن للمصلحة العامة، وهذه لا يضمنها سوى احترام القانون.
من نافل القول إن الكرة في المغرب عاشت لعقود طويلة خارج القانون. تمخزنت، وفق عنوان الأطروحة التي أنجزها الباحث منصف اليازغي في الموضوع. الظاهر أن لا شيء تغير.
بعد رحيل العسكر عن تسيير جامعة الكرة في 2009، انتخب رئيس مدني انتخابا عجيبا. انتخب بالتصفيق، إذ اضطر منافسوه للانسحاب في آخر لحظة. بعد علي الفاسي الفهري، الذي لم يعقد طيلة مدة ولايته أي جمع عام للجامعة ضدا على قانونها، انتخب الرئيس الحالي فوزي القجع، هو الآخر، بعد انسحاب منافسه الرئيسي عبد الإله أكرم، و”توافق” المتنافسين على اقتسام المسؤوليات…
إذا كان هذا حال الجهاز الرئيسي المسؤول عن تسيير شؤون الكرة، فماذا تكون أحوال الأندية والعصب…؟ كيف لا تتكرر الهزائم والكوارث، إذ لا حسيب ولا رقيب. يقول جمهور الرجاء البيضاوي في أحد أناشيده “عايشين عيشة مهبولة خارجين على قانون الدولة”. الخروج على قانون الدولة هنا ليس سوى تعبير مجازي، صورة شعرية، إن جاز القول، ابتدعها خيال هذا الجمهور المبدع. أما الخارجون فعلا عن قانون الدولة، فهم أولئك المسؤولون الغارقون في اللامسؤولية، وما أكثرهم.
إسماعيل بلاوعلي