أثار القانون، الذي تبنته إسرائيل بتاريخ 18 يوليوز 2018 حول القومية اليهودية والذي يقيم تطابقا ما بين الدولة اليهودية والشعب اليهودي، لغطا كبيرا. أصبحت اللغة العبرية، بمقتضى هذا القانون، اللغة الوحيدة المعتمدة في إسرائيل، وتم نزع مقتضى لغة رسمية أو ثانية عن العربية. ويروم هذا القانون بالنسبة لواضعيه الربط مع فلسفة الصهيونية.
وأما المقتضى الثاني، ويهم أكثر من 60 بالمائة من الضفة الغربية، فيقضي بعدم احتكام الفلسطينيين فيما يخص تظلماتهم إلى المحكمة العليا، بل إلى المحاكم العادية، أي يُسوّى بينهم وبين الإسرائيليين ظاهريا، لكن واقع الحال هو أن الضفة تكف من أن تخضع لقوانين الاحتلال لتخضع لقوانين إسرائيل. واللامنطوق في هذا المقتضى هو الضم. ذلك أن القانون لا يتحدث عن دولة إسرائيل، بل أرض إسرائيل أو إرز إسرائيل (بالعبرية) التي تضم ما تسميه الأدبيات الإسرائيلية بيهودا والسامرة.
ما لا يسفر عنه القانون هو الإجهاز على حل الدولتين بضم الضفة الغربية عمليا، والأخطر هو تجريد عرب إسرائيل من المواطنة… وقد يكون الأمر خطوة، قبل دفعهم للرحيل أو الترحيل. وهو ما أوحى به النائب آفي ديشتر، عن الليكود، صاحب مشروع القانون، في تصريح له موجها كلامه للنواب العرب: «لم تكونوا هنا قبلنا، ولن تكونوا هنا بعدنا».
يهمنا طبعا أن نقف عند هذا القانون، لأن ما يعتمل في إسرائيل يؤثر في الشرق الأوسط، وينتهي تأثيره، بل أواره، إلى بلادنا. نسعى أن نعرض للموضوع، ليس من منطلق إيديولوجي، أيا كان، بل من منطلق العدالة، والمنطق. بمقتضى القانون الذي يُشرعن لممارسة مكرسة، يُسمح لشخص، وليكن من روسيا أو إثيوبيا أو الأرجنتين أن يصبح إسرائيليا، وتمنع المواطنة، بل حق الزيارة، على شخص ولد بحيفا أو يافا، أو أن أصوله منها لآلاف السنين، لأنه ليس يهوديا. وقد تكون أصوله القديمة من العبرانيين، وحوّل دينه ولغته، كما حدث لغالبية شعوب الدنيا التي حولت لغتها ودينها دون أن ترحل عن أرضها أو تنسلخ من شخصيتها العميقة. قانون القومية يجافي مقتضى العدل بشكل صريح. أما من ناحية المنطق، فكيف يمكن الزعم بالديمقراطية وتبني مفهوم مثلوم للمواطنة، أو مواطنة بالتقسيط، أو اختزالية. تقوم هوية الدولة الإسرائيلية على تلازم قيام الدولة والشعب اليهودي، ومن جهة أخرى على تلازم الهوية اليهودية والديمقراطية. وهو الأمر الذي يطرح جملة من الأسئلة. هل الشعب مفهوم ديني؟ وإذا كان كذلك، أليس ذلك مناف للمقتضى الحديث للمواطنة الذي يقوم على الأرض. ما القاسم المشترك بين يهودي علماني أشكنازي، وآخر متدين سيفراديم؟ ما الحال لمن ليس الاعتبار اليهودي محددا لهويته؟ ما الشأن لمن أراد أن يعتنق دينا آخر، من يهودي إسرائيل أو أن يصبح غنوصيا؟ كيف تقام الدنيا وتقعد من أجل حرية المعتقد، ويُسكت عن مقتضى يشرعن للمواطنة على قاعدة ثيولوجية أسطورية؟ ألسنا هنا أمام ما يسميه المؤرخ الإسرائيلي شلومو صاند بأسطورة الشعب الإسرائيلي عوض حقائق موضوعية دامغة؟
طبيعة إسرائيل التناقض المستمر، مثلما كتب عزمي بشارة في كتاب قيّم “من يهودية الدولة حتى شارون”. والكتاب ليس صرخة غاضبة، أو لغطا خطابيا، بل تحليلا ينبني على معرفة، وقراءة موضوعية، لم يفقد من راهنيتة رغم أنه كُتب قبل أكثر من عشر سنوات. يتأذى الإسرائيليون مما ينعتونه بمعاداة محيطهم لهم، ويُنحون باللائمة على جيرانهم الذين يوظفون الدعاية، ويستعملون سلاح المقاطعة الاقتصادية، مثلما ينزعجون من أوصاف العنصرية، والأبارتيد… لكن أليسوا مسؤولين عن ذلك؟
للأسف الشديد، هناك سابقة مذمومة ما تزال تلقي بظلالها، ونعرف في المغرب بعض فصولها المؤلمة بصفة حميمية، حينما أقدمت الكنيسة في إسبانيا على طرد المسلمين واليهود على السواء بناء على نظرية صفاء العقيدة والدم، وتنصلت من الاتفاقات التي أبرمتها مع الملك أبي عبد الله، وأقدمت على استصدار قانون سنة 1567، بمقتضاه يتحول المسيحيون الجدد، من نُصِّروا قسرا، من أسمائهم القديمة، ولغتهم ولباسهم، لينتهي الأمر إلى قرار الطرد سنة 1609، إلى غاية 1614، مما اعتبره بعض القساوسة بالهولوكوست اللذيذ.
ألا يكون قانون الهوية، أو القومية خطوة قبل الطرد النهائي، أسوة لما وقع لليهود والمسلمين في الأندلس؟ هل يستفيق المنتظم الدولي إلى أن يتم “التطهير العرقي” للعرب الإسرائيليين، أو للفلسطينيين في الضفة، مع استمرار وضع البونتوستات في غزة؟
قرأت ما كتبه الصحافي المغربي ميمون أم العيد في زيارته لإسرائيل، ووقفت على أمرين خليق أن نقف عندهما، أولا، ما أورده من أن مساعي التطبيع مع المغاربة، ما هي إلا حطب (كذا) من أجل تطبيع إسرائيل مع المحيط المباشر لها من أردنيين ولبناين وسوريين ومصريين. فليس المغاربة إلا وسيلة، مثلما كتب أم العيد. والمسألة الثانية ما قاله عضو في الكنيست من المغرب، أوحنا، أن الذي يهم الإسرائيليين من كل المشارب، هو هوية إسرائيل وليست هوية المغرب بداخل إسرائيل. وهو تصريح له ميزة الوضوح. ولا يلام شخص أو مسؤول يدافع عن مصالح بلاده، لكن ما الشأن لمن يُوظف لذلك، من خارج إسرائيل، عن وعي أو غير وعي؟
قانون القومية ليس قانونا جائرا فحسب، بل إجراء ينبني على مخاطر. ومثلما شجبت في مقال سابق، كان قد جر علي تهجمات مجانية، مقترح قانون مغربي حول تجريم الزيارة إلى إسرائيل، لا يمكن السكوت، انطلاقا من مقتضيات العدالة والحق والشرعية الدولية ومنطق الأشياء، عن قانون يتنافى ومستلزمات الديمقراطية، ويهدد بتأجيج التوتر في المنطقة.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير