«قم للمعلم وَفِّهِ التَّبْجيلاَ، كاد المعلم أن يكون رسولا»، هو بيت لأحمد شوقي الشاعر المصري الملقب بأمير الشعراء، علمونا إياه بالمدرسة الابتدائية، وتعلمنا، من خلال شعره، حكايات حيوانات لافونتين مترجمة ومنظومة شعريا بطريقة طريفة.
استقبل البيت المذكور لزمن بالمغرب وكافة البلدان العربية، واستنبت ووجد له دعاة ومدافعون، فالذين تلقوه كانوا ينتمون لمجتمع يقول للمعلم، وهو يتحدث عن الأطفال، «نْتَا ذْبَحْ وأنا نْسْلخْ». كانت العائلة والمدرسة متفقتين على نوع من التربية، ألا وهي إدماج الأطفال في المنظومة القائمة على طاعة الوالدين وطاعة المعلم (والمؤسسة الدينية)، لينتهي المطاف بطاعة الدولة (المخزن).
ولكن تأسيس المدرسة الوطنية الحديثة (بمعنى الجديدة) سوف يطرح إشكالا صعبا .لن تكون المدرسة نافعة ومنتجة للأطر الضرورية لتسيير دواليب الدولة، حتى ولو كانت خنوعة، دون اللجوء إلى معارف وعلوم ولغات حديثة أي أوربية وغربية بالأساس. وبما أنه من العبث القول إنه بالإمكان استيراد الأواني دون المعاني كما كان يقول إيديولوجيو النظام من الفقهاء (أي العلوم دون القيم التي أنتجت هذه العلوم)، فإن المدرسة الجديدة طرحت ضرورة قواعد وضوابط بيداغوجية جديدة .ومنها علاقة المعلم بالمتعلم، سيما وأن عددا مهما من المدرسين، إلى حدود نهاية سبعينات القرن الماضي، كانوا من الفرنسيين والأوربيين والكنديين. وكان بحكم هذا الوضع، يتكلف الفرنسيون وغيرهم من الأجانب بتدريس المواد العلمية والاجتماعيات، واللغة الفرنسية، ويسند إلى المعلم المغربي والعربي عموما تدريس المواد التي تلقن باللغة العربية، وهي غالبا الشعر القديم والتربية الإسلامية …لذا أصبحت صورة المعلم الرسول تتراجع وتتحول رويدا إلى صورة المعلم التقليدي الذي تجاوزه الزمن.
هذه مدرسة السنوات الأولى لاستقلال المغرب والتي سوف يلجها جيل قريب من النضال من أجل الاستقلال، ومتعطش فعليا إلى أن يقوم بدوره في بناء الوطن.
تلك المدرسة التي تخرج منها جيل كامل سوف يسهر على تسيير شؤون المغرب لاحقا، أو سوف يمضي زمنا ليس بالهين داخل السجون بسبب أفكاره التغييرية، سوف تخضع لترميم وإعادة النظر ابتداء من انتفاضة .1965 سمي هذا الترميم على مستوى التصورات والبرامج بالإصلاح. ومنذ ذلك الزمن، والمغرب مسكون بما يسمى “بإصلاح المنظومة التعليمية“، حتى ولو كانت وفق التاريخ والزمن تحمل أسماء مغايرة. وكانت الدولة تعين، في كل مرة، لجنة من الخبراء والسياسيين والتربويين للسهر على الإصلاح. ولكن، وكما أسر لي أحد أصدقائي المختصين في التعليم، فإن المغرب، ومنذ الستينات، كلما اقترح إصلاحا جديدا للنظام التعليمي كلما هبط المستوى، ولم يَحِدْ هكذا على هذا النهج منذ الإصلاح الأول إلى اليوم.
من الأكيد أن الهدف من البرامج الإصلاحية كلها كان، وما زال، هو تحسين جودة التعليم، والعمل على الرفع من مستوى المتعلمين وكفاءاتهم، ولكن في الوقت نفسه الحرص على دور المدرسة كأداة إيديولوجية للسلطة .أي أن هذه الأداة، المدرسة، تقع في منتصف الطريق بين الأداة الأولى أي العائلة، والدولة التي يجب أن تجني ثمار الإدماج الذي تضطلع به الأولى والثانية.
واعتمادا على الدرس الذي استنتجته الدولة من انتفاضة التلاميذ والطلبة سنة 1965 بالدار البيضاء، فإن قريحة الدولة تفتقت عن فكرة مفادها أنه بالإمكان الحفاظ على البنية الحديثة والغلاف الخارجي للمدرسة المغربية مع حقنها بمحتوى تقليدي عتيق من الناحية الروحية .وهو ما يسميه الساهرون على إعداد البرامج بمنظومة القيم والتي يجب أن تخترق جميع المحتويات سواء في العلوم غير الحقة أو حتى في العلوم الحقة من فيزياء ورياضيات وعلوم طبيعية …كما تم خلق أجواء عامة من المناخ التقليدي بدءا من فتح مقرات لأداء الصلوات سواء بالنسبة للأساتذة والتلاميذ أو بالنسبة للأجهزة الإدارية .كما حرصت الدولة على استعمال كل الوسائل لتذكير المتعلم بأنه ينتمي إلى عالم غير ذلك الذي أنتج العلوم التي تلقن له. وهو ما كان يقصد به الأواني دون المعاني. أن تدرس ديكارت وداروين لا يضيرك في شيء مادام أنك تدرسهم من أجل الحصول على الدبلوم.
وفي فترة ما أحس الجميع، دولة ومعارضة، أن الأمر يتعلق باللغة، وأنه لو أن المغرب استطاع أن يعرب منظومته التعليمية لكان أحسن بالنسبة للمتعلمين الذين كان يفترض القائلون بهذا الأمر أنهم كلهم عربا .وهكذا، عربت الجامعة أولا ثم تبعها التعريب التدريجي لجميع أسلاك التعليم. وأسهم في التعريب إيديولوجيون معروفون منهم محمد عابد الجابري وغيره .هذا التعريب الذي تم على عجل، أفقر التعليم وأفرغه من قوته العلمية والقيمية، كما جعله يتقوقع على هوية متحجرة سوف تكون فرشة إيديولوجية قابلة للفكر الديني المتطرف الذي سوف تختار الدولة تعميمه على الجامعات والثانويات ابتداء من نهاية السبعينات من القرن الماضي. استحال التعليم إلى وصفات تُخْتَارُ بعناية، يُقْبِلُ عليها المتعلمون، يحفظونها عن ظهر قلب ويعيدون إنتاجها يوم الامتحان.
ليس من الغريب إذن، أن يتباهى التلميذ اليوم بكونه يغش للحصول على الباكالوريا، كما أنه ليس غريبا أن يدخل شخص ما إلى حرم المدرسة ويشبع الأستاذ لكما أمام الملأ انتقاما لابنه أو ابنته .حدث غَلَطٌ ما في تَحَوُّلِ المدرسة من النظام الموروث عن الحماية الفرنسية إلى الأنظمة المتتالية التي اقترحتها الدولة المغربية.
لم يعد بمستطاع المدرسة أن تنتج المواطن الخنوع الطائع، ولا المواطن المتعلم الذي يعرف أين تقف حدود حريته، وإنما أصبحت تنتج جحافل من الخارجين على القانون.
هكذا فقدت الدولة أهم أدواتها الإيديولوجية.
موليم العروسي
مستشار علمي بهيئة التحرير