لم يكن من قبيل المصادفة أن تعقد مؤسسة لقاء حول “الخيال في سراديب السلطة” بمراكش بتاريخ 25 يناير 2018، دعت له مختصين من المغرب وفرنسا، ممن يزاوجون ما بين الفعل والتنظير، واعتمدت هذا الشعار الذي حمله فتية 1968، كما لو أنهم ينعون آنذاك جفاء الخيال وجفافه في عالم السياسية وفي بؤرة السلطة.
والحقيقة أن السياسة في المغرب وفي غير المغرب تشكو ضعف الخيال. من الضروري طبعا، في مجتمعات حديثة، الخضوع لقواعد مُسْتَنَّة، والعمل في إطار مؤسسات وضوابط ومرجعيات، وهي أشياء تحد من الخيال وتقلص هامش الإبداع. ليس الخيال بالضرورة أمرا إيجابيا، قد يشطح، وقد يشتط، وقد يكون أداة للشر والنزوات، وبخاصة إن كان في يد من له سلطات مطلقة، ولكن نفعه أكثر من ضرره طالما قامت مؤسسات واضحة الاختصاصات، وقواعد محددة المفاهيم. آنذاك لا خطر من الخيال. السياسة أضحت مسارات عوض توجهات، والبرامج أرقام عوض رؤى. لا يخلو خطاب سياسي من أرقام وبيانات ومنحنيات. ولكن هل يمكن استحثاث همم الشعوب من خلال لغة الأرقام؟ هل كان لونستون تشرشل أن يعبئ الإنجليز أثناء الحرب العالمية الثانية بلغة جامدة، بخطاب بارد، أم من خلال مقولته التي ذهبت مذهب الأمثال: ليس لي ما أعدكم به سوى الدموع والأحزان. والخيال لا ينفصل عن حلم جامع، وطموح جماعي؟
يقول الفرنسي باريس، Barrès، ما تحتاجه الشعوب، أثناء الفترات الحازبة خطابا يطمئنها. نحتاج خطابات تحمل رؤى، وتطفح بحلم جماعي، وتخرج عن القوالب الجامدة.
من يحمل الخيال؟
من المفترض أن يكون حاملوه القيادات والزعامات. لا معنى للقيادات إن كان خطابها صدى للبيروقراطيات، وأضحت المتحدثة باسم التقنوقراطيات، ولكن واقع الحال ينبئ أنه من العسير على القيادات سواء داخل الدولة، أو في الأحزاب أن تخرج عن ديكتات التقنوقراطيات والبيروقراطيات. لا تخرج القيادات قيد أنملة مما يرسمه التقنوقراطيون، وما يصوغه واضع الصورة. تنوب الصورة عن الفعل وعن الخيال على السواء. تضحى الوسيلة غاية، بل يبرر انعدام الغاية الوسيلة. ندخل عهد Process ، ودراسات الجدوى، والدراسات التقنية، ودراسة الدراسة، لنتبين بعدها عدم جدواها. هل نسيتم حمى الخنازير؟ والبرنامج الاستعجالي في التعليم وهلم جرا.
لا يبقى إلا ما أسماه باريتو بالنخبة المضادة حاملةً للأمل، حاملة لطموح جماعي، يستحثها الخيال خارج القوالب الجامدة والصورة المنمطة، ويستنهضها الحلم. الأمل معقود على المجتمع المدني، ولكن ينبغي أن نحدد ما نعنيه بالمجتمع المدني، وبالنشطاء، حيث ينوب “النشاط” فعلا عن التصور وعن الفعل، وحيث يضحى تموقعا، في أحسن الحالات، أو أصلا تجاريا في غالب الحالات. والأمل منوط بالمثقف. وينبغي ها هنا أن نقف عند المثقف وماذا نعني به. فلقد اختلط الحابل بالنابل. نتفق على ضرورته، وبالأخص في الظرف الراهن، فهل هو الناشط، وهل هو القابع في برجه العاجي، وهل الحاضر الغائب، أم الغائب الحاضر، وهل هو صاحب لغة معقدة مقعرة، أم المتحدث بلغة بسيطة، ولكن معبرة. هل عمله خطرات، أم جهد ينصرف للمدى الطويل.. هل هو النقدي أم العضوى، أم كلاهما.
من الضروري أن تكون النخبة السياسية حالمة لطموح جماعي، ولكنها إن أخفقت أو عجزت حملته النخبة المضادة. الإنسان لا يعيش بالخبز وحده، مثلما يقول المسيح. له ذاكرة، وهو عليها ضنين، وله طموح، ويحتاج لمن يعبر عن ذاك الطموح. وما أضيق العيش، لولا فسحة الأمل. وما أكبى السياسية بلا أفق وبلا خيال وبلا طموح جماعي، وبأساليب عفىّ عليها الزمان وأخنى عليها الدهر.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير