بعد الغضب، ينبغي أن نفكر مليّا فيما بعد فاجعة إمليل التي أودت بضحيتين إسكندنافيتين في أبشع الصور. لا بد بكل موضوعية أن نُشيد بما أقدمت عليه القوات الأمنية من خلال توقيف الجناة في ظرف وجيز، وتقليص الخطر، والتفاعل مع تطلعات القوى الحية، والتواصل بشأن الحادثة، ولا بد أن نشيد بما أبدته الفعاليات المغربية وكافة شرائح المجتمع من استهجان لفعل همجي مقيت.
كل ذلك طبعا لن يعيد الضحيتين، أو يبلسم جراج أسرتيهما، ولكنه يسعفنا في حرب ضروس ضد الإرهاب. كل القوى الحية ومكونات الشعب المغربي تَسْند قوى الأمن في الحرب على الإرهاب، مهما اختلفت مشاربهم ورؤاهم. ومهم لقوات الأمن أن تشعر أن المعركة التي تخوضها ضد الإرهاب هي جهد باسم المجتمع والدولة، على السواء. وقوف المجتمع ونفوره من العنف، رسالة ضد الاتجاهات التي قد تسول لها نفسها استعمال العنف، أو العناصر التي قد تلجأ له. فلا مكان اعتباريا لهؤلاء، فبالأحرى البطولة، ولا حظوة لهم، أحياء أو أمواتا، ليس لهم لوحدهم، بل قد يلصقون العار بذويهم. من أعمق ما سمعت عن الحادثة، مما التقطه من سيدة شعبية تحدث أخرى، وهما جالستين على الأرض، تتحدثان عن فاجعة إمليل: الله يأخذ فيهم الحق.
إمليل لحظة فارقة في تاريخ الإرهاب في بلادنا. إمليل من طبيعة مغايرة، غير حادثة 16 ماي أو مقهى سيبير في الدار البيضاء، أو حادثة لهديم بمكناس أو أركانة في مراكش. نحن هنا أمام الجيل الثاني من الإرهاب الذي يحمل ميسم داعش، والذي يعتمد الترويع، من ذبح وتحريق، وإغراق، وإلقاء من شاهق، ودهس بالسيارات.
المسؤول الأول عن الفعل الإجرامي هو فكر متطرف عابر للقارات، قد يجد أرضية في الظروف الاجتماعية الصعبة، ولكن الظروف الاجتماعية الهشة ليست هي السبب الرئيسي. أدبيات هذا الفكر وأساليبه معروفة، وهي في مجملها تلك المتضمنة في كتاب إدارة التوحش من ترويع، وفي أساليب الزرقاوي التي أضحت أسلوب عمل. مصدر هذا الفكر ليس المغرب، ولكنه يمكن أن ينفذ للمغرب، وبالأخص مع أساليب التواصل الحديثة. ولا يمكن التصدي لهذا الفكر إلا بفكر مضاد، وهي معركة طويلة ساحتها التربية. وينبغي أن نفكر في ذلك، في كل وسائل التربية من مدرسة ومسجد وفضاء عام…
من الضروري كذلك مثلما طرح العديدون أن نفكر في تدبير الحقل الديني والسياسات المنتهجة، هل حقا للمجالس العلمية تأثير على المجتمع. ليس لدي جواب، ولكن الذين طرحوا السؤال في أعقاب حادثة إمليل على صواب في طرح السؤال.
أعيد ما قلته في مناسبات عدة، انطلاقا من مُسلّمة، وهي أن ليس هناك بلد محصن من الإرهاب، مهما كانت يقظة قواته الأمنية. المعركة ينبغي أن تكون على جبهات عدة، تخاض على أزمنة ثلاثة، المدى القصير وهو شأن الأمنيين مع تنسيق قوات الأمن داخليا ودوليا، مما من شأنه أن يحد مجال تحرك الإرهابيين الفعليين والمحتملين. وزمن متوسط ينصرف إلى رفع الضر على الشرائح المهمشة، في المدن والقرى، وإدماجها اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. وأما المدى البعيد وهو الذي يهمني، هو صوغ مخيال جديد، أو سرد حسب المصطلح المستعمل، منسجم مع التجربة الكونية والقيم العالمية. لن نتطور أو نتحصن بخطابات هوياتية أيا كانت.
عقب حادثة الدار البيضاء، يوم 16 ماي لسنة 2003، كان مما أثير من أجل فهم ظاهرة الإرهاب أو العنف باسم الدين، إنشاء معهد للدراسات والأبحاث. يمكن أن نتساءل هل أفادنا هذا المعهد في فهم الظاهرة والتصدي لها. هل أفادتنا ملتقيات في فنادق ضخمة لشخصيات عالمية، تبيع صورتها واسمها، في نزع شأفة التطرف؟
نحتاج مراكز بحث تتسم بالجدية وليس لقاءات عابرة أو علاقات عامة، أو مناسبات لتلميع الصورة. من المغاربة من هم مشهود لهم بالخبرة الدولية، في قضايا الإرهاب، ومنهم من قدّم تحليلات رصينة، في أعقاب حادثة إمليل، ولكنهم يشتغلون إما من خلال جهود فردية، أو مؤسسات ينشؤونها ذات إمكانات محدودة. وكل ذلك يظل قاصرا في غياب مراكز بحث جدية. والأمنيون مهما كانت درجة خبرتهم ومقدرتهم يُقرّون بعجزهم في غياب فكر مناهض للعنف، وفي غياب وعي مجتمعي، ووقوف القوى الحية ضد العنف والتطرف. كما أن الجامعة غائبة في معركة التنوير. أما العلوم الاجتماعية فاسم بدون مسمى. لا بد أن نجعل من الغضب شحنة إيجابية ونعيد التفكير في السرد القائم ونعيد النظر في سياستنا التربوية ونسائل تدبيرنا للحقل الديني، وتدبير المجال. ليس هناك دولة محصنة من الإرهاب، ولكن مناعة الجسم المجتمعي هي ما يبطل مفعوله. والمناعة جهد دائب لا يكل ولا يمل.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير