من الواضح أن وباء كورونا لم يقدم للعالم الموت والمرض فقط، بل يقدم أيضا عددا من الدروس ويعيد إنتاج جملة من المفاهيم أو يصحح عددا من الاختلالات أو يؤسس لنماذج جديدة من العلاقات.
بكوريا الجنوبية انحنى لي مان هي، زعيم إحدى الطوائف الدينية المسيحية، أمام الشعب لطلب الصفح، بعد أن تورط في مخالفة قوانين الحجر الصحي، وأقام قداسا بكنيسته مسببا في انتشار الوباء بالمنطقة. وبفلوريدا الأمريكية تحدى الكاهن رودني هووارد براوني كل تعليمات الحجر مرارا، بل إنه احتج بأن كنيسته لن تغلق، لأنه «يربي إحيائيين وليس مخنثين». بعض جماعات الحريديم اليهودية لم تستجب، أيضا، لتعليمات الطوارئ، بل إن وزير الصحة بإسرائيل نفسه وهو حاخام حريدي خالف التعليمات مما أدى لإصابته وزوجته بالفيروس، وهو القائل سلفا: «كورونا عقاب ضد المخنثين».
في عالمنا الإسلامي لم نكن بعيدين، أيضا، عن هذه الانفلاتات الدينية. بإيران اقتحمت حشود ساحات مرقد الإمام علي الرضا بمشهد، ومرقد السيدة فاطمة بقم، احتجاجا على إغلاقهما من طرف الحكومة. وبعدد من الدول السنية أقيمت صلوات الجمعة في الشوارع، وخرج متظاهرون بالمغرب ومصر يهللون ويكبرون…
لكن هذه الأحداث بقيت محدودة، أو ظهرت مع بداية الوباء وعدم طغيان الوعي العام بخطره، وسرعان ما تلاشت…
فهل يفك كورونا الاشتباك التاريخي بين الوباء والدين خصوصا في نسقنا الإسلامي؟ وهل يؤسس لعلاقة جديدة بين الدين والعلم؟
الواقع أنه مهما حاول البعض إخفاء وجود صراع حقيقي بين العلم ونمط التدين الغالب في محيطنا، إلا أن التاريخ يحيلنا بقوة لتجليات هذا الصراع، وكيف كان التنافس حادا بين الطرفين حول من يمتلك الحقيقة المطلقة، في ظل الاعتقاد العام بأن الحقيقة لها مسار واحد إما أن يقدمها العلم أو الدين.
ويمكن القول بأن الضعف الذي عرفه العلم في فترات سابقة، إضافة للتحالفات الدينية-السياسية، جعل للعقل الفقهي سيطرة على المجتمعات الإسلامية، وانتصارا للرواية الدينية التقليدية في تحليل كل الأحداث بما فيها الأمراض، مما جعل الناس يلجؤون في مثل هذه الأوضاع للفقيه وليس للطبيب.
لكن ما وقع من تطور في العلم، واتساع لمجالات تأثيره… جعل الفقه التقليدي يحاول جاهدا البحث عن المصالحة بينه وبين منتجات الطب الحديث، من خلال القول بأن كل هذه الاكتشافات قد سبق لها الدين منذ قرون…
يذكرني كل هذا بما أثاره مؤخرا مختص مغربي في علوم التغذية، له سابقا جهد مشكور، في تخصصه، بتوعية الناس لما يصلح من الأغذية النافعة وما لا يصلح… لكن الرجل تجاوز ذلك لمهاجمة النظريات العلمية وتسفيهها… بل بلغ به الأمر لإصدار فتاوى قد تضر بصحة الإنسان وتؤدي به إلى الهلاك، كقوله بأن الصيام علاج لمرض السكري، مخالفا كل تعليمات الأطباء.
ويعود هذا الرجل لإثارة الجدل، اليوم، حين يدعي أن الصوم علاج لكورونا، وتتجاوب معه جماهير وتدافع عن رأيه، مما ينبيء بأن ذلك التداخل القديم بين وظيفة الطبيب و”لفقيه” لا زال مسيطرا على الأذهان. فقديما كان “لفقيه”، الحامل لكتاب لله، هو نفسه المعالج سواء بالرقى والأدعية، أو ببعض الوصفات الطبيعية، ورغم ما عرفه الطب من عصرنة، لا زال كثير من الناس يبحثون عن نموذج الرجل الذي يقدم العلاج مغلفا بـ«قال لله، قال الرسول»، حتى يضمن له قبولا وتأييدا من طرف ذهنية عامة لا زالت لا تميز بين العلم والدين كمسارين مختلفين… والأسوأ من هذا كله، برأيي، هو التلاعب بالعقول بدعوى أن كل ما أنتجه الطب ليس إلا مؤامرة غربية من لوبيات صناع الأدوية، وأن في ثقافتنا ما يغنينا عن كل هذا العلم…
لذلك لا غرابة من كل هذا التأييد، وإنما الخطر حين يستيقظ الناس من الوهم، كما وقع للكنيسة زمن الطاعون الأسود لما عجزت عن مواجهته بعد ادعائها ذلك، مما كان أحد أسباب التخلي عنها في المجتمع. ما نحتاجه اليوم هو أن نؤسس لمسافة واسعة بين العلم والدين، إذ أن إقحام الدين في قضايا علمية محضة يضر به ولا ينفعه، ويقامر بصورته في عالم تجريبي يتغير من وقت لآخر، ومن أراد أن يقدم لنا نظرية علمية أو حججا طبية، فمجاله المختبرات والمجلات المحكمة والمجتمعات العلمية، حيث تخضع النظرية للدراسة والتجربة المضادة والنقد، ولا تتعدى كونها احتمالا إلى أن يتم إثباتها عبر سنوات من العمل والمتابعة، أما اليوتوب ومنصات التواصل فهي مجال للتوعية والتحسيس، وليس لطرح النظريات العلمية.
محمد عبد الوهاب رفيقي
كاتب رأي