لم يكن أمين حزب، قد يكون كبيرا بأمانيه وطموحاته، ولكنه صغير بمقاعده وتمثيله، أعني حزب القوى الديمقراطية، يتوقع أن يثير زوبعة حين أعلن أن الموجة الإسلامية ولت، وقد تكون موجة الليبرالية بدأت…
أساء الكثيرون الظن بصاحبه، ممن قرنوا الموجة الإسلامية بالإسلام .شتان بين الأمرين. لن نجري اختبارا أكاديميا مع أمين الحزب حول فهمه لليبرالية، وهل يميز بين الليبرالية السياسية والليبرالية الاقتصادية، وما هو فاعل بالنيولبيرالية، التي يُجمع الكل على نفوقها.
شئنا أم أبينا نحن على مشارف مرحلة جديدة، داخليا وإقليميا ودوليا، ولسوف تنطبع آثارها في بلادنا على المستويين السياسي والثقافي. وحتى أزن الأمور موازينها، فالإسلام السياسي، وهو مصطلح صاغه الغربيون، تمييزا له عن الإسلام الشعبي والإسلام الرسمي، في أزمة، وهو لا يحظى بالدفَق الذي عرفه بعد حرب الخليج وعاصفة الصحراء، والتي بلغت موجة صدمتها بلاد المغرب.
لم تعد شعارات الإسلام السياسي هي ما يستحث الشارع في عمان وتونس والدار البيضاء أو الخرطوم. المواطن موزع بين التوق لقيم، ومنها الكرامة والعدالة الاجتماعية، ومنها مطالب قطاعية ملموسة. لم تعد خطابات الهوية تستحثه، ولا المزاعم الأخلاقية تستهويه.
الإسلام السياسي في أزمة، لأسباب عدة، أولها، أنه لم يكن إلا تعبيرا عن الغضب. غضب شرائح ألقى بها التحديث المتسرع، وتوق نخب محرومة منه –أو المقعدون عن الحداثة كما يسميهم عالم سياسي ببلادنا “Les Recalés de la Modernité”، بسبب أصولها الاجتماعية وثقافتها– إلى مكان تحت الشمس، وبتعبير آخر، لم يكن الإسلام السياسي إلا أزمة عُسر الهضم، لحداثة لم تنضج في مطبخ تاريخنا ولا مجتمعنا، وكل أزمة عسر الهضم فهي عابرة .عرفتها اليابان وروسيا وبروسيا. وليس الإسلام السياسي، في نهاية المطاف، إلا عَرض عسر الهضم.
والإسلام السياسي في أزمة، لأنه لم يكن يحمل بديلا ولا تصورا، ليس كما الاشتراكية، التي كان لها تصور للمجتمع والاقتصاد والدولة، وكان يكتفي باستقطاب الغضب، واستغلال أخطاء الحاكمين وزلات خصومه. لكن أكبر اختبار تعرض له الإسلام السياسي، هو أنه لم يعد خطابا، وإنما سياسية، يقاس بأدائه، ومدى استجابته لتطلعات المواطنين. تولى الحكمَ في السودان عبر انقلاب عسكري، وبلغ سدة الحكومات في أعقاب الربيع العربي، عبر مسار انتخابي، في كل من مصر وتونس والمغرب.
لم يعد ممكنا الحكم على الإسلام السياسي حيث زاول السلطة من خلال الأماني أو حسن النوايا، ولكن من خلال الأداء، وليس من خلال الخطاب الأخلاقي، ولكن من حيث الإنجاز، ومدى تطابق الخطاب الأخلاقي والواقع.
وتظل تجربة العدالة والتنمية، أو على الأصح التجربة المغربية في التعامل مع الإسلام السياسي، الخاضع لقواعد اللعبة، متفردة. بلغ قياديو العدالة والتنمية الحكومة في أعقاب الربيع العربي، عن طريق صناديق الاقتراع، وغادروها عن طريق الاقتراع .سيكون من العسير توظيف المظلومية، كما وُظفت حيث استُعملت القوة. بيد أن تأثير العدالة والتنمية أو الإسلام السياسي، عموما، في الحياة العامة والمجتمعية والثقافية، لا يعود إلى سنة ،2011 حين بلغوا الحكومة، بل قبل ذلك، بكثير، وبخاصة مع حرب الخليج (1991)، حيث أضحى للإسلام السياسي حضور نوعي في الحياة العامة، هو ما تُرجم لاحقا حتى أصبح حزب العدالة والتنمية أول قوة سياسية في البلاد. فهل سيبقى للحزب خصوصا، وللإسلام السياسي عموما ذلك الوهج الذي كان له لزهاء ثلاثين سنة، مع حرب الخليج، ثقافيا وإعلاميا؟
الذي لا يبصر من الغربال يكون أعمى، كما يقول المثل. فالمشهد السياسي والثقافي مقبل على تغيير عميق …من العسير أن تبقى اللعبة السياسية من غير معارضة، لكن المعارضة في التاريخ المؤسسي ليست تلك التي حملتها أحزاب، ولكن مدا شعبيا، أو حركة، قد يكون لها تعبير حزبي، كما الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في مرحلة، ثم سليله الاتحاد الاشتراكي، وبعده العدالة والتنمية… أما المعارضة الحزبية كما أحزاب ما كان يسمى بالوفاق، بعد حكومة التناوب سنة ،1998 فقد كانت باهتة.
إذن من سيضطلع بالمعارضة؟ وهل سيتم الاضطلاع بها من داخل المؤسسات، أم خارجها؟ وهل سيرقى اليسار المؤسسي من خلال حزبي الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية، كي يعبر عنها؟
لكن أكبر تغيير هو ذلك الذي لسوف يطبع المشهد الثقافي، من حيث القيمُ التي سوف يتمحور عليها، ومرجعياته، وفحواه وفاعلوه. سيتوارى خطاب التراث والهوية، لفائدة خطاب جديد، أو خطابات جديدة، مدارها المواطنة وقيمتها العقل.
فهل يرقى الفاعلون السياسيون والثقافيون لانتهاز الفرصة لتثبيت قيم الحداثة؟ هو ذا الرهان الكبير، إذ كما ورد في البيتين اللذين يجريان مجرى المثل:
إذا هبّت رياحك فاغتنمْها // فلكل خافقةٍ سكـــــــــــونُ
وإذا درّت نياقك فاحتلبها // فلا تدري الفصيل متى يكونُ
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير