بعد ثماني سنوات من دخول قانون 54.05، المتعلق بالتدبير المفوض للمرافق العامة المحلية، حيز التطبيق، أصدر المجلس الأعلى للحسابات، تقريرا تقييميا حول التدبير المفوض للمرافق العامة المحلية في قطاعات توزيع الماء والكهرباء والتطهير السائل والنقل العمومي الحضري والنظافة.
ويشير التقرير إلى أن الشركات المفوض إليها وفرت برسم سنة 2013 مجموعة من الخدمات في مجالات التوزيع والنظافة والنقل الحضري عبر الحافلات لفائدة ما يزيد عن 13.5 مليون نسمة، وحققت رقم معاملات سنوي يناهز 15 مليار درهم، كما أنجزت استثمارات متراكمة بمبلغ إجمالي يقارب 42 مليار درهم، وبلغ عدد المستخدمين لدى هذه الشركات حوالي 35 ألف، بالإضافة إلى عدد كبير من العاملين بصفة مباشرة أو غير مباشرة.
تركزت أهم ملاحظات هذا التقرير، الذي جاء ليستعرض الوضع القائم في مجال التدبير المفوض للمرافق العامة المحلية بإعطاء تشخيص للقطاعات المعنية واقتراح توصيات وسبل للإصلاح، على الإخلال بالالتزامات من طرف الشركات المفوض إليها على مستوى البرامج الاستثمارية، وعدم مراجعة عقود التوزيع كل خمس سنوات، كما هو مفترض، واستخدام معدات متقادمة لا يجري تجديدها أو صيانتها، وغياب الحكامة، وضعف الإدارة الجماعية.
تطرح مسألة التدبير المفوض إبداء ملاحظتين أساسيتين، تتعلق الأولى بدور الدولة ووظيفتها والخدمات التي عليها تقديمها للمواطنين عن طريق المرفق العام، الذي يشكل أداة لخدمة المصلحة العامة خارج منطق تحقيق الأرباح. فيما تعنى الملاحظة الثانية بطبيعة المفوض إليه أمر تدبير المرفق العام المحلي، والمحكوم بمنطق الاستثمار والربح. وبين تفويض الدولة وسعي المفوض إليه للربح يطرح سؤال المواطن وجودة الخدمة المقدمة إليه وتكلفتها. فالأرقام الواردة أعلاه، التي قدمها تقرير المجلس الأعلى للحسابات، تبين أنا الأمر لا يتعلق فقط بدينامية اقتصادية وأرقام معاملات، بل بخدامات حيوية تهم ملايين المواطنين. فهل راعت العقود والاتفاقيات المبرمة مع هذه الشركات المفوض إليها هواجسهم وانتظاراتهم وقدراتهم الشرائية؟ بالرجوع إلى تصريح وزير المالية والخوصصة، بمناسبة صدور القانون 54.05 بالجريدة الرسمية بتاريخ 16 مارس 2006، نجد حديثا عن كون التدبير المفوض يمكن من تحقيق أرباح مقابل حجم الأموال المستثمرة، واعتباره عاملا أساسيا لتحقيق تنافسية الاقتصاد الوطني وجلب الاستثمارات الخارجية، وإشارة قوية للمجموعات المالية الدولية للمستثمرين الأجانب والمغاربة، ومن حسنات هذا التدبير المفوض أيضا، حسب نفس التصريح، أنه يخول عدة مزايا تتجلى خصوصا في توفير الموارد الناتجة عن إحداث وسائل جديدة للتمويل من طرف القطاع الخاص. حضر إذن هاجس التوازن الماكرو-اقتصادي وغاب البعد الاجتماعي، والنتيجة أن شركات التدبير المفوض راعت مصالحها وضاعفت أرباحها، على حساب القدرة الشرائية للمواطنين وجودة الخدمات المقدمة لهم. فمثلا شركتا أمانديس بطنجة وريضال بالرباط قامتا بمضاعفة فواتير الماء والكهرباء بمجرد استلامهما تدبير هذا المرفق الحيوي، وتحدث تقرير سابق للمجلس الأعلى للحسابات سنة 2009 عن تزويد شركة ليديك لبعض أحياء الدار البيضاء بماء مشبع بالصدأ، وعن اختلالات أخرى.
هكذا يبدو المواطن/المرتفق الحلقة الأضعف في عملية تفويت المرافق العمومية، التي بدت فيها الدولة/المفوض غير متخلية عن مسؤوليتها وإشرافها، من خلال آليات الرقابة والافتحاص التي تكفلها لها المواد 17-18-19 من قانون 54.05، لكن عمليا وجدت نفسها عاجزة عن مجاراة شركات عملاقة وذات نفوذ وخبرة تدبيرية وإدارية لا تضاهى، لذلك نفهم لماذا اقترح المجلس الأعلى للحسابات إحداث هيئة وطنية مستقلة بالنسبة لكل قطاع على حدة، لأن المسألة تتطلب فعلا تتبعا ومراقبة ويقظة.
التعقيد الكبير أننا أمام تناقض بين منطقيين: منطق قائل بأن المرفق العام يشكل أساسا ومبررا للدولة وكل امتياز تتمتع به، وبالتالي عليها حمايته وتقديم الخدمات للمواطنين عبره، ومنطق آخر يقول بأن مسايرة الركب الاقتصادي العالمي يفرض تفويت تدبير المرافق العمومية للخواص قصد تخفيف العبء على الدولة وضمان الجودة والمردودية. فشكل الانتصار للمنطق الثاني انخراطا، متهافتا أحيانا، من موقف الضعف في صفقة ترجح منطق الربح على حساب الوظيفة التقليدية للمرفق العام. وتجسد تجربة ليديك نموذجا معبرا في هذا الباب، فالوكالة المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء كانت قد رأت النور بمدينة الدارالبيضاء منذ سنة 1961، أي قبل إنشاء المكتب الوطني للكهرباء سنة 1963، بعد صعود اليسار بقوة إلى مجلس بلدية المدينة، إثر أول انتخابات شهدتها البلاد سنة 1960، وكانت هذه المبادرة هي الأولى من نوعها في المغرب. وقدر للدارالبيضاء أيضا أن تستبق الإطار القانوني المنظم مرة أخرى، في عملية التفويت، فكانت سباقة إلى إرجاع شركة ليونيز دي زو إلى قطاع تولت تدبيره بين 1915 و1961، في طبعة جديدة ومنقحة عنوانها ليديك، بمقتضى عقد أبرم يوم 28 أبريل في 1997، أي 19 سنة قبل إخراج القانون 54.05 المتعلق بالتدبير المفوض إلى حيز الوجود. ولعل الاحتجاجات المتتالية على هذه الصفقة وغيرها من الصفاقات الأخرى، سواء من طرف المنتخبين أو المواطنين، وما ورد في تقرير المجلس الأعلى للحسابات يجعل الحاجة ملحة إلى مراجعة دقيقة لعقود التفويض بعد انقضاء آجالها، بما يخرجنا من منطق الاستئساد إلى منطق الشراكة الحقيقية، بين دولة تملك سلطة الرقابة الفعلية وقطاع خاص يقدم أجود الخدمات بأسعار معقولة.
أي نتيجة
View All Result