دخلت الأمم المتحدة مرة أخرى على خط التعليم الخصوصي بالمغرب، فبعد توصيات اللجنة الأممية لحقوق الطفل في شهر شتنبر من السنة الماضية، والتي أبدت قلقها إزاء الحق في الولوج إلى هذا القطاع، وغياب المراقبة بشأن شروط التسجيل وجودة التعليم، عادت هذه السنة نفس الهيئة الدولية، من خلال لجنة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بها إلى إثارة نفس الموضوع. ولعل في أسئلة لجن الأمم المتحدة، التي تفاعلت مع تقارير محلية ودولية، تحدثت عن خوصصة التعليم في المغرب، ما يشكل دقا لناقوس الخطر طلبا لتصويب وضع غير سوي. فالمدارس العمومية تُغلق بالتدريج، بل يجري هدم بعضها، مقابل تهافت نحو الاستثمار المربح في مجال التعليم الخصوصي. والمتتبع لما جاء في تقريري سيلفن أوبري وكيشور سينغ، يدرك أن هذا الواقع الذي جندت له الأمم المتحدة خبرائها، يستدعي أكثر من وقفة تأمل من أجل قراءة موضوعية، لخيار في التعليم صار يؤرق الداخل كما الخارج.
عندما انطلقت حركة المدارس الحرة بالمغرب سنة 1919 وبشكل متوازي في كل من فاس وتطوان، تم ذلك في سياق مجابهة الاستعمار، وبشكل نضالي وتطوعي، دفاعا عن هوية وصيانة لموروث ثقافي وحضاري، ساد شعور عام بكونه صار مهددا، إذ بدا النظام التعليمي المقترح، حاملا في طياته لنمط عيش قائم بذاته. في هذا الزمن كانت مختلف المدارس والنظم التعليمية الرسمية المقترحة في المغرب من طرف إدارة الحماية، تجسد النموذج المتقدم والحديث للتعليم في المغرب، وإن بمستويات متفاوتة. مما شكل رهانا بالنسبة لمن فكر في البديل عنها لتحسين المنتوج، وضمان استقطاب أكثر، فانطلقت المنافسة، ولو بإمكانيات متباعدة جدا. في البدء جاءت المبادرة من أربعة فئات رئيسية: السلفيون، وأتباع الطوائف الدينية، والعلماء والفقهاء، والتجار. وحري بنا أن نسجل للتجار أن انخراطهم في مشروع المدارس الحرة لم يكن بهدف الاستثمار والربح السريع، بل بوازع وطني، أدى إلى توتر علاقتهم بإدارة الحماية، التي لم تكن ترمق مبادراتهم هاته بعين الرضا. ووجدت العائلات المغربية نفسها بين واقع كئيب في «المسيد» ومنتوج غريب تقترحه مدرسة الحماية، فجاءت المدارس الحرة لتجيب عن بعض انتظاراتها، وتخاطب عقول الأبناء لا جيوب الآباء. وبعد مرحلة التأسيس في العشرينات، جاءت مرحلة تطوير المنتوج، والانتشار في المجال، ومنح الشهادات، ووضع الميثاق. خلال سنوات الأربعينات أُحدثت البكالوريا المغربية بالمنطقة الشمالية، وقدم أحمد بلافريج، بالمنطقة السلطانية، نموذجا متقدما للمدرسة الحرة، بمنزل خاله جسوس، بعد أن طور منهاجها، واستقطب لها أطرا جيدة بأجور فاقت مرتبات مدارس الحماية، وسجل ابنته فيها، ولم يمض وقت طويل حتى كان ثلث تلامذتها من البنات. لم يكن أبناء الأسر المعوزة يطالبون بشيء، بل كانت بعض النسوة يتطوعن لخياطة الملابس للتلاميذ. وانخرط السلطان محمد بن يوسف شخصيا في هذا المشروع، توجيها وتشجيعا ودعما، بل وبادر إلى الإسهام العملي فيه. وأثمرت الجهود، خلال فترة تولي المقيم العام إيريك لابون، تشكيل لجنة فرنسية-مغربية، لإصلاح التعليم، وصاغ الوفد المغربي أول ميثاق للتعليم في صيف سنة 1946، كان متقدما جدا بالنظر إلى رهانات المرحلة.
مع حصول البلاد على الاستقلال أعرضت الدولة المغربية عن تبني النموذج التونسي في امتصاص المدارس الحرة واعتبار مهمتها منتهية. بل رأى فيها محمد الفاسي، أول وزير للتعليم في المغرب المستقل، نموذجا جديرا بأن يُستلهم في المدرسة العمومية، وهو المُعجب بتجربة مدرسة امحمد جسوس لأحمد بلافريج، ذات التعليم المزدوج الرفيع المستوى، والحريصة على الاهتمام باللغة العربية. فتحمس لمشروع الاستنساخ، دون الانتباه إلى تغير المعطيات والسياقات، وراهن على الكم وتكريس منطق الهوية، من خلال التوسع والتعريب، فكانت النتيجة مخيبة للآمال. لذلك عمل خلفه، عمر بن عبد الجليل، سنة 1958 على إلغاء هذا التوجه. غير أن هذا الأخير لم يعمر بالوزارة إلا سنة واحدة، فجرب خلفاؤه وصفات متعددة، أثبتت حالة من الارتجال والارتباك في التدبير، وعدم استيعاب الدرس الذي تضمنته رسالة شارل أندري جوليان الشهيرة في الموضوع بتاريخ فاتح نونبر 1960. وتم إفساح المجال للمدارس الحرة/ الخاصة لسد النقص الحاصل، وظهرت هذه المرة من ثلاثة أصناف، الجديد بينها هو الذي يضم ما أسماها جون ديمس بـ«المدارس الناشئة عن عملية تجارية مكشوفة يقف وراءها مقاولون». هذا الصنف هو الذي ساد وهيمن بشكل كبير منذ أواسط الثمانينات، مع تداعيات وصفة التقويم الهيكلي، وأنتج الوضع الحالي، بعد أن جرى الانتقال من مدرسة اعتُبرت «صدقة جارية» في العشرينات إلى مقاولة للربح السريع مع مطلع الألفية الثالثة. لذلك فالأصوات المتوجسة من خوصصة التعليم، تنطلق في تخوفها من تراجع الدور التربوي والبعد الإنساني في هذا النوع من التعليم، لفائدة منطق تجاري بارد يرى في التلاميذ مجرد زبناء. كما أن أسئلة لجن الأمم المتحدة تنطلق من هواجس الحفاظ على حقوق الطفل، في مدارس تلفظ من لا مال له، ناهيك عن ذوي الاحتياجات الخاصة، مما يكرس نزوعها الإقصائي. ولعل في لجم النهج المقاولاتي الصرف لغالبية هذه المدارس، عبر ضوابط واضحة تُعنى بشروط التسجيل وجودة المنتوج، ما يجعل من المدارس الخصوصية في المغرب مدارس «مواطنة» بعد أن كانت زمن الحماية الفرنسية مدارس «مناضلة». وإن كان ذلك لا يعني التنصل من ضمان الحق في التعليم كخدمة عمومية مجانية وبجودة عالية، تُغني عن اللجوء إلى المدارس الخاصة، أو على الأقل تجعله اختياريا لا ضرورة لمن استطاع إليه تمويلا. ونعتقد أن هذا هو الورش الحقيقي، وإن كان صعبا ومكلفا، إلا أنه استراتيجي، ولا يمكن الاستغناء عنه بتفويض الأمر للخواص.
الطيب بياض
مستشار علمي بهيئة التحرير