يخوض الشعب اليوناني منذ بضع سنوات معركة حاسمة في مواجهة سلطة المال. ضمانا لاستمرار الحكومة اليونانية في أداء الديون، يقدم الدائنون مساعدات مالية مشروطة ببرنامج تقشفي قاسي. المشكلة أن للتقشف ضحايا، إذ تقل المخصصات الموجهة للفئات الهشة، بينما لا تقل الضرائب المفروضة عليهم بل ترتفع. يفقد الشباب فرصا كثيرة للتمتع بحقوقهم في التعليم والصحة والشغل… ويفقد الشيوخ فرص التمتع بحقهم في تقاعد طالما أدوا مساهماتهم فيه لسنوات.
لذلك اختار اليونانيون، بعد تجريب وصفة التقشف لسنوات، البرنامج الأكثر إنسانية. برنامج “سيريزا” الطامح لإقرار أكبر قدر ممكن من العدالة في توزيع أعباء التقشف على فقراء وأغنياء اليونان معا. البرنامج الذي ينتصر لحقوق الإنسان على حساب المال.
في المقابل يصر الدائنون على الانتصار لحقوق المال، حقوق الدين، ولو على حساب الإنسان وحقوقه الأساسية. مشكلة عويصة تواجهها البشرية منذ زمن طويل، وخاصة منذ هيمنة النظام الليبرالي العصري. كيف السبيل لضمان العدالة في إطار الحرية، حرية المبادرة والملكية الفردية لوسائل الإنتاج؟ لذلك برز دور الدولة الحديثة في تنظيم الصراع الطبيعي بين المستغلين والمستغلين، على أساس أكبر قدر ممكن من العدالة.
تقف الدول المفلسة، أو العاجزة مثل المغرب، في مفترق طرق. من أين تأتي بما يسد العجز ليقتنع الدائنون بالاستمرار في القروض؟ عادة ما تستهدف الفئات الهشة، إذ يحمي الأغنياء أنفسهم. الأغنياء قلة، لديهم ولوج أكبر للمعلومات، وفرص أيسر لتنظيم أنفسهم والدفاع عن مصالحهم بفعالية. بينما الفقراء فئات كثيرة مختلفة، أحيانا متناقضة، ولوجها الضعيف للمعلومات يجعلها بعيدة عن الواقع، أقرب للخرافات. التضامن عندها إحسان وليس حقا. تنظيمها التلقائي مستحيل، أما تنظيمها السياسي فصعب ومعقد… كلما قطعت شوطا في هذا السبيل يجتهد خصومها لإضعاف منظماتها وتشتيتها. لننظر أين وصلت النقابات المهنية في بلادنا بمناسبة نتائج الانتخابات الأخيرة.
لم تصل أزمتنا الأخيرة في المغرب لما وصلته أزمة اليونان من تعقيد. لكنها، من منظور تاريخي، أكثر حدة، إذ انتفض اليونانيون لأنهم كانوا يملكون حقوقا جرى المساس بها، بينما نحن لا نملك شيئا! التغطية الصحية عندنا غير معممة، التقاعد لا يغطي أكثر من 30 بالمائة من الأجراء، التعليم “يتخوصص” شيئا فشيئا، والبعيدون عن المركز مهمشون… حتى عندما ينمو الاقتصاد لا تظهر ثماره على أوسع فئات المجتمع.
إسماعيل بلاوعلي