محكوم علينا بالتفاؤل كما يقول المرحوم سعد ونوس. فلْنتركْ جانبا كل ما قد يستثير ويُخرج المرء عن طوره ويدفع “الواحد يقطّع جلايلو”، ونتحدث كما لو أن “الدنيا هانية والسما صافية”، و كما لو أن راحلتنا شقّت طريقها، وكأنما الأرض سالكة، ولا خطر يتهددها من وهاد وعقبات وكمائن وأننا “قطعنا الواد ونشفو رجلينا”… نفعل أسوة بما يقال في علم النفس بما يسمى بالإقناع الذاتي.
ومن هذا الحُكْم بالتفاؤل القسري أن عقولا في هذا البلد تقيم التشخيص الدقيق، وتجرؤ على طرح القضايا المزعجة في هدوء وروية وعمق، وتُعمل مبضع التحليل الصارم، وتنادي بثورة فكرية. ومن هذه العقول أو من الإسهامات الرصينة، ما تقدم به السيد إسماعيل العلوي في كتاب مفيد «النضال الديمقراطي في المغرب، رهانات الماضي وأسئلة الحاضر»، وهو عبارة عن حوارات أجراها معه السيد عبد لله البلغيثي، جديرة بالقراءة، قمينة بالتمعن.
يصدم الرجلُ القارئ بقول نحن بحاجة إليه كما يحتاج من غلب عليه السُّبات إلى رجة دوش بارد عسى أن يستفيق، وهو أن النتاج الفكري عندنا هزيل كمّا ونوعا، أو بتعبير السيد إسماعيل العلوي نشكو فقرا فكريا، ولم نستطع لا أن نُحْدث إطارا يستقيم فيه الحوار العميق الذي يتأتى معه الفكر، ولا أن نُجري تراكما معرفيا، ولا أن تكون لدينا كتلة حرجة من المنتجين والمستهلكين للفكر على السواء، ولا أن يتحلى مثقفونا أو مفكرونا بالدقة في المفاهيم، يَحُلّون بساحة النتاج الفكري الغربي وهم “حارْكين” بلا أوراق ولا تأشيرة، ومن ذلك نقل مفاهيم من غير تفكير فيها ولا تفكر، ولا حتى استيعابها، ومنها الكتلة التاريخية لكرامشي التي نُقلت لا كما فكّر فيها كرامشي ولكن كما أرادها من نقلها. وليس الفكر عبثا ولا هو ترف، بل هو سابق على كل فعل سياسي، وهو الأول. نشكو آفات عدة، حسب السيد العلوي، تجعلنا نُقدّم العربة على الحصان، ولذلك لا نتقدم، ونحسب أننا نتقدم.
ومن آفاتنا أننا نعيش في مكان واحد أزمة متعددة، منّا من هم في الحداثة، ومن هم فيما بعد الحداثة، والغالبية متأرجحة ما بين العصور الوسطى، وما بعد العصور الوسطى، ونعيش جميعنا في جزر منفصلة، ونتكلم خطابات متعددة، ولا يفهم البعض عن البعض وإن أومؤوا بالرأس أنهم أدركوا، إلى أن تصيب الفأس الرأس، و”اللي عطاه لله عطاه”، إذاك فقط يتبينون أنهم لم يكونوا يتكلمون لغة واحدة. ومن آفاتنا أننا لم نهضم ماضينا، أي لم نُجر عليه قراءة نقدية، وأُصبنا بعسر هضم نتاج الغرب، ونواجه الحاضر بكثير من الغرور والاستعلاء. ومن آفتنا أننا نتصرف كالأطفال، نتأرجح بين الشيئين، ولا نستطيع أن ندرك أن الظواهر الاجتماعية معقدة، لا يمكن أن تخضع لوحدة قياس أبيض أسود، أو حلال حرام، فهي متداخلة، والعقل مهم في فهممها والتعاطي معها، مثلما التقاليد والعادات للعيش المشترك، وكذا المصالح، بل الخوف من المجهول، وهو عامل من عوامل العيش المشترك. فلا يمكن أن نتخندق في مدرسة عقلانية تضرب صفحا عن الماضي وتهزأ بالتقاليد، ولا تقيم وزنا للاعتبارات الذاتية، ولا مدرسة عتيقة تجافي العصر.
ومن آفاتنا أننا نخلط الفكر والتقنيات ومنها المملاة، وإسماعيل العلوي لا يتورع في الإنحاء باللائمة عن النيوليبرالية الهوجاء، والاختلالات البنبوية اللصيقة بها، ولذلك يقرأ مسار اليسار كما ظهر في الغرب، وكما تبدّى في المغرب، أو يعيد قراءته في أمل أن ينفض عنه الغبار ويعيد له وهجه.
ومن آفتنا أننا شعب بلا ذاكرة، لا يقرأ ولا يذكر. وقلما تستوعب نخبه عِبَر التاريخ.
ومن آفاتنا أننا لا نعرف ابن خلدون إلا باسمه، وقد يستشهد به البعض بمن فيهم إسماعيل العلوي خطأ، اعتمادا على العنعنة. تشخيص مريع هذا الذي أجراه العلوي، كي يذكرنا بشيء هو أن نخلُص للتفكير، عوض الجعجعة التي تطبع حياتنا العامة، وآية ذلك أن أصحاب الجعجعة ما يلبثون أن يتبينوا أنهم كانوا يجرون وراء سراب وينثنون بخيبة في مسرى رهاناتهم، لأنهم بغير عمق، وبلا روية، ولا تصور ولا بُعد نظر.
هو ذا واقعنا أو بتعبير إسماعيل العلوي: «إن الأمر الخطير الذي يطرح إشكالا عويصا، هو غياب التنظير في موضوع التحكم في الواقع المعيش لحياة المجتمعات، وبالتالي يبقى التنظير، هو المرشد لمن له غيرة حقيقية لنصرة قضايا شعبه». ويبقى الأمل قائما وهو يسكن شعبنا أو الدينامية الإيجابية التي يختزنها، أو مثلما يقول اسماعيل العلوي: «إننا ما زلنا متأخرين في ميدان دمقرطة حياتنا العامة. لكن لا أحد يجادل في أن شعبنا تواق للتغير والتقدم ولتحقيق المساواة بين جميع أفراده في جميع مناحي الحياة الثقافية والتنمية على المستوين الكمي والنوعي كما يطمح إلى تحقيق العدالة الاجتماعية».
ومن آفتنا، والقول لي هذه المرة، أننا نبدأ عملا ولا نتمه، أو ما أسميته في مكان آخر بـ Le Syndrome de l’Inachevé ومن آفاتنا سكيزوفرنية مُثَبّطة. وما أبرّيء نفسي.
حسن أوريد
مستشار علمي بهيئة التحرير
“ان ازمة المثقف انعكاس لازمة مجتمعه. لكن المثقف عامل فعال في المجتمع : يستطيع اما ان يخفف من الازمة المجتمعية بدراسة اسبابها و اظهار سبل الخروج منها، و اما ان يضعفها بازمة ذاتية تهمه هو و يلهي بها ذهنه و اذهان قارئيه. ” عبد الله العروي